لازلنا في دهشة مابين أحلام ثورة وتطلعات أمة وبين أطماع نخبة وركود دولة، حتي بدا المشهد مفارقاً لشروط الصحوة فاقداً كل قدرة علي التقدم والإجادة والمنافسة، لولا إرادة الجماهير ومبادرات هادفة مفرحة من الشبان والأساتذة. كان التناقض كبيراً حيث ثورة أدهشت العالم وقدمت نموذجاً للتاريخ بينما الإعلام أحبط المصريين حيث بدا كما الديناصور لايراوح مكانه مغيب الوعي بينما العالم يتغير من حوله وهو غير قادرعلي الاستجابة للمستجدات والمتغيرات، يرفع عقيرته كل مساء مطالباً بالتغيير وهو المبقي علي كل مظاهر تخلفه وركوده وإنتهازيته وإفلاسه. إن ثمانية عشر يوماً بداية من 25 يناير كانت كافية للضمير الجمعي أن يتطهر بفعل الثورة في كل ميادين التحرير بطول البلاد وعرضها بينما ثمانية أشهر مضت لم تكن كافية للعقل الجمعي حتي يتوحد في اتجاه معالم طريق المستقبل وعلاماته واستحقاقات مشروع الثورة ومآلاته. وظلت النخبة في جدال وشقاق ترغي وتزبد بكل قاموس الكلام ومفرداته عدا أفعال المستقبل وبشاراته وكأن الزمن توقف بهم عند الماضي بمآثره وهناته والمضارع بكل مفارقاته وإجراءاته، وكأننا قمنا بثورة لا من أجل العدل والحرية والنهضة وإنما دفعنا دماء الشهداء وعذابات المصابين مهراً للإنتخابات وأحلام التنفذ والسلطة، وانتهز الإعلام الفرصة ليتاجر في لحم الثورة يفتعل المعارك ويمارس الإثارة ويكثف صورة ذهنية لدي الجميع بأن الثورة سرقت أو ضلت طريقها إلي أحلام الجماهير وتطلعات الشعب. وحصر التليفزيون المصري بكل قنواته وفضائياته برامجه وحواراته وسهراته في حفنة من المتطلعين لدور أو المتحدثين نيابة عن الثورة من مدعي البطولة بأثر رجعي مع بعض أصحاب النوايا الحسنة والملامح الطيبة، وكان من المدهش ومما يصنف في باب الغرائب والعجائب أن صنع التليفزيون المغيب من بعض القتلة والإرهابيين أبطالا تفرد لهم الساعات يفتون في الحلال والحرام وماينبغي ومالايصح وماهو مقبول عندهم أو مرفوض من قبلهم، ولم يفعل الإعلام ذلك إلا عن جهل وطلباً للإثارة وهذه نسبة ضئيلة وإما إرضاء لكفلائهم بحثاً عن الإعلانات والتمويل السخي مقابل السماح لهم باعتلاء المنابر الإعلامية يخطبون فينا ويروعونا ليل نهار أو تآمراً وتواطؤاً لتفريغ الثورة من محتواها وتيئيس الناس وإضعاف عزائمهم. لقد إنكشفت صورة الإعلام في إفلاسه وخوائه في الأشهر الماضية بما يشير إلي السطحية والارتجال ومحدودية الرؤية وضيق الأفق، إذ حصر نفسه في عدد محدود من الرواد والضيوف وكأن مصر عقمت من العقول والكفاءات القادرة علي تقديم الأفكار والبرامج والمبادرات ومخاطبة المستقبل وتقديم الحلول الغير تقليدية لمشكلات حالة وطارئة، حتي استهلكوا النجوم والضيوف ونضبت لديهم كل الروايات والحكايا فعمدوا إلي برامج الإسفاف والإثارة والتفاهة، إلا استثناءات هنا أو هناك مما يؤكد القاعدة ولاينفيها. إلي أن ساقتنا الظروف إلي متابعة تجربة شابة واعية قررت أن تخرج من عباءة "جيتو القاهرة المستبد" الذي اختصر مصر في القاهرة واختصر القاهرة في حفنة من الشخصيات واختصر الأفكار والأخبار والتحليل والتنوير والإعلام في حيز السطحية والتكرار والإثارة وافتعال معارك من لاشئ، وإذا ببرنامج "صفحة جديدة" علي قناة "نايل لايف" يفتح صفحة لكل من أراد العودة إلي كتاب الإعلام الواعي الواثق في أدواته الباحث عن الحقيقة واستعادة الوجه الحضاري المشرق لرسالة التنوير. مجموعة من الشبان المثقفين الحريصين علي مواكبة حلم التغيير والثورة المتابعين للحركة الثقافية والسياسية في المجتمع يصنعون نجوميتهم من أصالة مصر المعاصرة الثرية المعطائة، يقدمون نموذجاً في التناول الإعلامي المسئول المتوازن الهادئ والواعي لدوره ورسالته. كنت شاهدا علي صناعة إحدي حلقات برنامج "صفحة جديدة" الذي يرأس تحريره محمد حمدي الصحفي بالأهرام ويخرجه أحمد رفعت وهشام عبد الصبور ويقدمه رشا نبيل ولينا شاكر وأحمد سمير ومصطفي كفافي، شباب علي قدر الإحتراف والمسئولية، وكانت الحلقة بمناسبة إنتخابات النقابة العامة لمحامي مصر، كان ضيفا البرنامج الأستاذان رأفت نوار ومنتصر الزيات المرشحان علي مقعد النقيب، ضيفين من العيار الثقيل في حلقة واحدة، إذن هي المناظرة بين متنافسين علي مقعد اعتدنا علي سخونة انتخاباته بكل مايصاحبها من اتهامات وتشهير وتجاوزات، لكن كانت المفاجأة عكس ذلك تماماً لقد شاهدنا حوارا راقيا لإثنين جديرين أن يكونا مثالاً وقدوة، حيث قدم كل منهم الآخر باحترام وود وتقدير، عرض كل منهما برنامجه ووجهة نظره وتبادل معهما المذيع اللامع حوار راقياً بحرفية وتمكن، هو لم يعمد للإثارة ولم يحولها إلي مناظرة رخيصة كما يفعل البعض، كان يتابع معي الحلقة مدير التحرير مصطفي رجب وفريق الإعداد أحمد إمبابي الصحفي اللامع في روز اليوسف ومعه فريدة محمد ورجب المرشدي ودار بيننا حوار جعلني أطمئن أن التجارب الناجحة لاتأتي صدفة وإنما وراءها علم وموهبة وكفاءة ورغبة في التغيير والتطهر، وأكتملت سعادتنا بتكامل الشكل والموضوع، فكان ماقاله الأستاذان الكبيران نوار والزيات بشارة لمستقبل المحاماة والمحامين ودعوة للتغيير وإشارة إلي أن أخلاقيات الثورة تعود لتفرض ذاتها وأن نهضة نقابات الرأي والقانون والصحافة تدفع في إتجاه إنتصار الثورة وترسيخ أدبياتها. كان شيخ المحامين رأفت نوار كبيراً وهو يحتفي بمنافسه الأستاذ الزيات الذي كان بدوره كبيراً وهو يقدر للأستاذ نوار قيمته وقامته. وكانت "صفحة جديدة" مدرسة ودرساً لقدرة الشيوخ والشبان علي إعادة الإعتبار لأخلاقيات الثورة.