عند هذا الخط الفاصل لم أكن استطيع التقدم، ولم تكن هي تستطيع التراجع، لوحت لها داعيا ومشجعا. التفتت مبتسمة وهي تمضي بين الممرضتين. ولم يحدث ان رأيتها في هذا الجمال وذلك الألق اذن يقترب الوقت الحاسم الذي ننتظره منذ نوفمبر الماضي وقت الجراحة. رغم نومي متأخرا، قرب الثانية عشرة، أي منتصف الليل، رغم استيقاظي مرتين، الاولي استأنفت بعدها النوم، الثانية ظللت في الفراش محملقا إلي السقف عبر القمة بعد اكتشافي انها الثالثة، ساعة كاملة امضيتها مرتحلا عبر خمسة وثلاثين عاما من الرفقة، من الحياة المشتركة، في مثل هذه اللحظات المنفردة تكثر الهواجس والارتحالات والتوقعات، ما اكثر الاحتمالات عند مواجهة المجهول، لا يمكن القطع بشيء. في مثل هذه اللحظات التي يوشك الاقربون علي مقاربة الخطر، يحاول الانسان تقمص حالة رفيقه، ان يتداخل وجوده في وجوده، لكن مهما كانت قوة الخيال، أو تدافع الافكار، فكل يظل بمفرده. حقا، لايولد أحد مع أحد، ولا يموت احد مع احد، في السنوات الاخيرة كثيرا ما اتطلع إلي شخص بعينه يمر في محيط بصري، اقول لنفسي: لن اكون هو، ولن يكون انا، كل له وجوده الفردي واطاره المادي »الجسد« هذا لن يكون ذلك. وذاك لن يحل مكان هذا، اساس الوجود فردي، ولكن المجيء اليه لا يكون إلا عبر زوجين اثنين من النوع الواحد، وخلال المسيرة من نقطة البداية إلي النهاية تتقاطع مصائر وتتداخل مصائر، وتنشأ تلك الوشائج غير المرئية والتي تقهر الفوارق وتذيب الطباع المختلفة من خلال التفاهم والتقارب والمعاناة ايضا. لكن عند النقاط الحاسمة يتطلع القرين إلي قرينه عاجزا أن يحل محله. أو يتألم ألمه، أو يفتديه ان اراد ونوي. في الرابعة فجرا كنت في كامل يقظتي، رغم الوقت القليل الذي امضيته مستغرقا في النوم، فورة داخلية من نشاط وتوثب ربما مصدرها ذلك المتوقع، المجهول الذي نمضي اليه، عندما عبرنا مدخل العمارة رفعت يدي بالتحية لحارس العمارة الذي بادر بفتح الباب لنا، لم يكن لديه تفاصيل، غير انني فوجئت به ينطق تلك العبارة التي سوف تتردد في سمعنا كثيرا فيما تلي ذلك، ممن نعرف ومن لا نعرف.. god bless you. أي »الله يرعاك..« . اجتزنا المدخل إلي الشارع، إلي الجادة الثانية، لا تنقطع حركة العربات طوال الليل، وبالطبع النهار، بينما عربات الاجرة بلونها الاصفر الشهير وطرازها الكلاسيكي ايضا، كنا خمسة، نحتاج إلي سيارتين، ركبت في الاولي مع ماجدة وابنتنا. »الشارع السابع والستون علي الجادة الاولي..« لاحظت ان السائق يحاول تشغيل العداد، الارقام الحمراء لم تظهر، كرر المحاولة عدة مرات ولم تظهر الارقام، تضايقت من ذلك، ولانني قطعت المسافة من قبل فانني اعرف الاجر وما يجب ان يدفع فوقه، امام الباب الذي عرفناه امس، توقفت العربة، مددت يدي بورقة فئة العشرين دولارا، فوجئت بالسائق يقول بالعربية.. »لن اتقاضي اجرا.. العداد لم يعمل..« قلت ان هذا مستحيل، أصر، قلت اذن خذ عشرة دولارات وتصدق بها علي من تشاء، الاجرة المعتادة حوالي ستة، لم يقتنع إلا بعد اصراري، تناول النقود وهو يردد »ربنا معكم إن شاء الله..« الهواء البارد يلفحنا وشعور بالذنب داخلي لانني اسأت الظن بالرجل الذي لم اعرف البلد الذي ينتمي اليه، ولا اسمه. الطابق الرابع نحن الان في استثناء الاستثناء، الطابق الذي سوف تجري فيه الجراحة داخل المبني الضخم المكون من عشرين طابقا، متعدد المداخل، هنا المستشفي صريح، لا يخفي ملامحه مثل المبني المخصص للعلاج الكيماوي، أو المبني الذي يجري فيه الكشف ولقاء الطبيب المشرف علي العلاج، في مواجهة المصعد مكتب تجلس اليه شابة حسناء مبتسمة. امامها جهاز حاسب آلي، تبحث عن الاسم، اصغي إلي طريقة نطقها »ماجدة« تشير إلي الاستراحة التي سنمكث فيها، عندما دخلنا إلي مقاعدها كان رجل يرتدي حذاء رياضيا ضخما، يجلس إلي جوار سيدة، كلاهما دون الخمسين، السيدة ترتدي رداء مفتوحا من الامام، منقوشا بالازرق. انه الرداء الذي يرتديه المرضي تأهبا لدخول منطقة الجراحة، ماجدة خلعت خاتم زواجنا، ارتديته في نفس الإصبع الذي يستقر به الخاتم الذي يحمل اسمها. انزلق بسلاسة لعلها المرة الاولي التي يفارق اصبعها منذ خمسة وثلاثين عاما، قاعة الانتظار مستطيلة، انيقة، لفت احمد زوج ابنتي نظري إلي لوحة صغيرة معلقة. كتب عليها علي شرف ابنتنا ماري ببوفينجتون وفي ذكراها جورج جون »الاب«.. آن بورتفليد الام في المستشفيات، في الجامعات، في المتاحف، سوف نري مثل هذه اللوحات التذكارية، مبدأ التبرع اساسي، يتم في هدوء وبدون صخب اعلامي أو اعلاني، ولأن المؤسسات حقيقية والقواعد والقوانين صارمة واضحة فكل يقدم علي ما يمكنه عمله، المجتمع يتساند وفقا لقانون بعضه مكتوب وبعضه شفهي، المهم انه يوجد نظام والاكثر ثراء يقدم ما يجب عليه من خلال الضرائب التي يعتبر التهرب من دفعها هنا عارا يلحق صاحبه إلي الابد، وفي لحظة اخري يقدم فائق الثراء علي خطوة تدهش الجميع مثل بيل جيتس الملياردير المعاصر الذي جني ثروته من اعمال تطوير الحاسوب، وفي العام الماضي، كان يلقب بأنه أغني شخص في العالم، تنازل عن ثروته كلها من اجل اعمال الخير التي تعود علي المجتمع بالنفع، واحتفظ بقدر يسير يمكن اسرته من عيش كريم فقط، بالطبع المقارنة مستحيلة بين أوضاعنا وأوضاعهم، المجتمع هنا تحكمه منظومة اخلاقية ماتزال رغم حدة التنافس، بل ان القانون يمنع الاحتكار، هل اندم ام اسخر من نفسي عندما كنا نصف الرأسمالية الامريكية بالمتوحشة، بالمتعفنة، اعترف انه لم يكن لدينا صورة حقيقية عن المجتمع الامريكي الذي عرفناه من السينما اكثر مما عرفناه من الواقع، ايضا تأثير السياسة الخارجية وبالتحديد في منطقتنا، والتي تتناقض مع الداخل، ربما ايضا لانه يوجد نظام، المهم اي نظام، رأسمالي، اشتراكي، ليبرالي، اما ما يجري عندنا فلا ادري له اسما أو وصفا، اطيل النظر إلي مدرسة مقابلة، المباني في الصباح الباكرة يكون لها صفة خاصة. البيوت لها سمات، الخطوط طولية أو افقية، الفناء الخالي يثير مشاعر غامضة افكر في الفتاة المكتوب اسمها علي اللوحة، في والديها اللذين تبرعا بهذه القاعة التي نجلس فيها، قاعة انتظار بجوار غرف الجراحة، استحضر هذه الفتاة المجهولة بينما ضوء النهار يكتمل. حوالي السادسة والربع ظهرت ممرضة ترتدي ملابس زرقاء سماوية، لكل هنا لونه، الاطباء الكبار يرتدون الاخضر »في كليفلاند الازرق السماوي والكبار جدا الابيض«، تمسك الممرضة أوراقا، تنادي اسم ماجدة، ماجدة تتبعها إلي باب تعبر منه الي اول منطقة العمليات، مسموح بعبور شخص واحد مع المريض، ابنتي ماجي التي اصبحت اما للأم ترافقها إلي الداخل، اجلس إلي مقعد يمكنني من النظر إلي الطريق، التحديق لمسافة طويلة، لفترة طويلة بمساحة وعمق العمر الذي عشناه معا. من السادسة إلي الثامنة ثمة مرضي اخرون يتوافدون، سيدة بمفردها ترتدي ملابس الجراحة، رداء ابيض منقوش بزهور زرقاء، رجل بصحبة سيدة، في البداية لم استطع معرفة من هو المريض منهما، لكن عندما نوديت السيدة عرفت انها المقصودة، لم يكن في هيئتها ولا في ملامح الاخرين ما يشي بالمرض الخبيث، معظم الذين جاءوا لاجراء الجراحات لا يحملون اية اثار ظاهرة، باستثناء اولئك الذين مروا بمرحلة العلاج الكيماوي والتي يتساقط خلالها الشعر تماما، العلاج الكيماوي قد يسبق الجراحة وربما يعقبها طبقا لحالة المريض ونوعية الورم ومدي تغلغله. حرصت عند الجلوس في الصالة ان نأوي إلي الجزء الاخير منها، حوالي خمسة مقاعد يقوم خلفها حاجز زجاجي، من مكاني استطيع ان اري كل الجالسين ولا يمكن لاحد رؤيتي، قدرت حضور بعض الاصدقاء، كثيرون طلبوا الحضور امس ولكنني اعتذرت لهم برقة لكن حوالي السابعة بدأ اصدقاء ماجي ومحمد. من عاداتنا ان يصحب المريض اكبر عدد من اهله للونسة والمؤازرة، في كليفلاند عندما خرجنا فجرا من الفندق المجاور عبرنا الطريق فقط، كنا اثنين ماجدة فقط بصحبتي، محمد وماجي في القاهرة، ولكن ظهر لنا اهل في هذه المدينة الموحشة، البعيدة جدا. لن انسي الدكتور صبري عوض الله الذي ارسل اليه الدكتور رفعت السعيد يطلب منه العناية بي، وعن طريقه تعرفت إلي الدكتور فوزي اسطفانوس الذي اصبح من اعز اصدقائي حتي الان، وإلي الاب ميخائيل راعي الكنيسة القبطية الذي طلب من رعيته الدعاء لي عام ستة وتسعين وصلي من اجل شفائي، بالامس اخبرني الدكتور فوزي انه سيقيم صلاة خاصة للدعاء لماجدة، اصغيت إلي ذلك متأثرا. تؤثرني اشكال التضامن الانساني إلي حد ذرف الدمع. خالد صديقي الذي تعرفت اليه في نيويورك ويعمل سائقا لعربة اجرة نيويوركية هاتفني في الصباح الباكر معاتبا لانني لم اتحدث اليه لينقلنا من البيت إلي المستشفي، قال انه بعد صلاة الجمعة سيتوجه مع صحب بالدعاء إلي الله سبحانه وتعالي بالشفاء. يدفعني فضولي إلي المشي باتجاه المدخل الذي عبرته ماجدة، اكتشف ان هذا الجزء عبارة عن غرف مخصصة للمرضي قبل الانتقال إلي منطقة الجراحة. كل مريض بصحبة مرافقه. أو بمفرده، الممرضات لكل منهن مسئوليتها، احداهن تشرح ما سيتم، اخري تعرف بالواجبات والحقوق، ثالثة تسأل المريض عن الهدف من اجراء الجراحة، لا تسأله مرة واحدة فقط، ولكن ثلاثا، اعتقد ان هذا الجزء مسجل، ربما بهدف تفادي الخطوات القانونية التي قد يلجأ اليها البعض لمقاضاة المستشفي، لا اعرف الإقرارات التي وقعتها ماجدة، لكنني اذكر الاجراءات والاوراق التي وقعت عليها قبل دخولي السبات. كنت اوقع علي كل ما يقدم اليّ من اوراق. لا اناقش ولا استفسر، لكن لفت نظري وقتئذ اقرار مضمونه ان المستشفي غير مسئول اذا ما وقعت غارة جوية أو حدث زلزال قوي، تخيلت المريض مخدرا علي طاولة العمليات، الطاقم الطبي يعمل فجأة يحدث زلزال قوي فيهرب الجميع ما عدا المريض طبعا، توقعات غريبة لكن الاغرب هو اقرار بعدم مسئولية المستشفي اذا ما افاق المريض فجأة، معروف ان البنج الذي يخدر مريض عملية القلب يكفي لتخدير ثلاثة آلاف فيل، لكن يحدث كل مليون حالة ان يفيق المريض فجأة اثناء اجراء الجراحة. ظاهرة نادرة لكنها يمكن ان تحدث من هنا يتخذ المستشفي هذه الاحتياطات ويطلب من المريض التوقيع علي تلك الاقرارات، في تلك المنطقة الفاصلة يوقع الانسان علي ما يطلب منه، خاصة ان الاوراق كلها تحمل شارة المستشفي الذي يقوم بالعلاج. السابعة والنصف غرف الانتظار أبواب الغرف تذكرنا بأبواب القطع البحرية، حيث شخصية المعدن اقوي ظهورا، بوابات ثقيلة فاصلة، لا توجد اسماء علي الغرف، كل المداخل متشابهة، لم اكن قادرا علي معرفة اي غرفة تضم زوجتي وابنتي، كلتاهما بصحبة الممرضة التي توضح كل الخطوات، وتجيب علي التساؤلات، عدت لاخرج من هذه المنطقة التي تبدو اكثر حساسية من منطقة الانتظار الاولي. بعد وصول اصدقاء محمد وماجي ظهرت ممرضة أو حكيمة لتخبرنا ان ماجدة ستدخل غرفة العمليات خلال عشر دقائق، هكذا سيمضي الحال في الساعات الثلاث القادمة، كل ربع ساعة تخرج ممرضة لتبلغ اهل المريض بما يجري داخل غرفة العمليات. خلال المدة كان ممكنا الاطلاع علي تطور المراحل الخاصة بالجراحة، بعد انتهائها يخرج الجراح نفسه إلي اسرة المريض ليشرح ما قام به وليجيب علي استفساراتهم هنا لا يجمل الاطباء الاشياء، يعبرون عن الحقائق بلغة ناصعة لا تحتمل التأويل. ويتحدثون عن الاحتمالات ايا كانت بهدوء اعصاب، وكثيرا ما يصدم ذلك المرضي القادمين من الشرق. المرضي المنتظرون هنا لا ينتظرون لقاء مع الطبيب، لكنها الجراحة، والتدخل الجراحي اصعب مراحل العلاج واخطرها خاصة اذا ما تعلق بالامراض الخبيثة أو الخطيرة، هنا يتساوي الجميع، كل المرضي سواء عند بلوغ الطبيب أو الجراح، المريض الذي يعالج يدفع التكاليف إلي ادارة المستشفي، أو المريض الذي يعالج مجانا بواسطة التأمين الصحي. المريض الذي يحتل منصبا في بلاده والمريض الذي يعيش في قاع المجتمع، احيانا يتعامل الجراح مع جسد فقط، هذا في جراحات القلب، حيث يتولي اطباء فتح الصدر والتخدير ثم يجيء الجراح المتخصص يتعامل مع القلب العليل، لا يعرف شيئا عن صاحبه. الثري والفقير يتساويان هنا. الثامنة إلا الربع اتجهت مرة اخري إلي المنطقة الاكثر حساسية، يبدو انني وصلت في الوقت المناسب، لمحت ماجي، اسرعت بالتقدم، كان الباب الكبير ذو المصراعين مفتوحا، وماجدة بين ممرضتين تتقدم بخطي ثابتة إلي الداخل، إلي الجراحة، يبدو انها شعرت بوجودي، التفتت باسمة، لوحت فلوحت، لم اكن استطيع التقدم، وكان لابد ان تواصل إلي الداخل، ابتسمت فرفعت يدي ملوحا ومشجعا، واجهتني ملتفتة إلي الخلف، يتألق جمالها في لحظة نادرة. لم يسبق لي ان رأيتها في هذا الألق، ذلك الصفاء.