مشكلة العلاقات بيننا وبين امريكا.. منذ ستينيات القرن الماضي.. وحتي ساعة كتابة هذه السطور.. هي مشكلة نفسية.. اسمها »المعونات«. والمعونات التي تقدمها امريكا لنا تحولت بحكم السنوات الطويلة التي تزيد علي نصف القرن لقضية »ادمان«. نحن ادمنا تعاطي المعونات.. وامريكا ادمنت التلذذ بمنحنا المعونات ومراقبة الاوجه التي ننفق فيها هذه الاموال وفي الاولويات الامريكية. نحن نغضب ونعتبر هذه السياسة تدخلا في شئوننا الداخلية.. التي تخصنا وحدنا بحكم استقلالية قراراتنا وارادتنا. وعشنا تفاصيل هذه الازمات ايام جمال عبدالناصر.. ودخلنا المعارك من اجل صفقات القمح.. وكتبنا المقالات في الصحف.. والتعليقات في الإذاعة وكانت تذاع بعد نشرة الاخبار. ودارت الايام وجاء الرئيس الامريكي بوش الصغير.. وفي رأسه فكرة.. سيطرت علي عقله سيطرة كاملة.. وهي اقامة امبراطورية امريكية تتولي ادارة شئون العالم ويكون هو.. مؤسس هذه الامبراطورية.. ورأي ان ميزانية المعونات الخارجية لا تتناسب مع الدور الذي يتعين علي الولاياتالمتحدة ان تلعبه.. وان هذه الميزانية المتواضعة كانت تصلح للسياسات المتواضعة السابقة.. وانه آن الأوان لزيادتها بنسبة 05٪ خلال ثلاث سنوات.. والقي بوش الصغير.. خطابا امام الكونجرس في مارس 2002 تحدث فيه لاول مرة عن الامبراطورية الامريكية.. واقترح زيادة المعونات الخارجية بنسبة 05٪ خلال السنوات الثلاث التي تنتهي سنة 5002 وانشاء صندوق لمواجهة ما اسماه تحديات القرن M.C.A وتزويده بخمسة بلايين دولار سنويا.. »تقدمها الولاياتالمتحدة لمجموعة مختارة من الدول التي يتسم نظام الحكم فيها بالنزاهة.. وان تستثمر اموال المعونات في مشروعات تعود علي شعوبها بالنفع.. وتطبق قواعد الاقتصاد الحر.. ودارت الايام.. وانفق بوش الصغير من المعونات ما شاء إلي ان جاء العام التالي 3002 واذا به يلقي خطابا امام الكونجرس يطالب بمعونات جديدة قدرها عشرة بلايين دولار تخصص لمساعدة الدول الافريقية ودول الكاريبي لمكافحة »الايدز« واسماه (Aid For Aids). وفي سنة 4002 خصص بوش الصغير 002 مليون دولار لمكافحة الجوع ومائة مليون اخري لبرامج الاغاثة الانسانية. وفي خلال السنوات التالي تضاعفت ميزانيات هذه الصناديق وبلغت 081 بليون دولار سنة 6002 وكانت الاكبر في تاريخ الولاياتالمتحدة. صحيح ان بوش الصغير استطاع خلال تلك السنوات التأثير علي »اولويات« الدول المتلقية للمعونات.. إلا انه اكتشف بمرور الوقت.. ان زعماء الدول يختلسون اموال المعونات. وان الجزء الاكبر منها يدخل جيوب هؤلاء الزعماء اللصوص لتأمين سلطانهم واهدار الاموال الطائلة في مراقبة خصومهم.. أو الانفاق منها علي اجهزة القمع البوليسية.. واعترف بوش بذلك.. واقر بان الزعماء ينهبون المعونات وعلي حد تعبيره »اننا نلقي بالمعونات في جحور للفئران (Rat-Hole) وان الحكومات التي تلقي المعونات لا توجهها للاغراض المخصصة لها.. وبالتالي فهي تذهب إلي جيوب حكام فاسدين يبقون فوق مقاعد السلطة لسنوات طويلة.. بما يعني ان الولاياتالمتحدة توجه معوناتها لنظم استبدادية فاسدة. اما المفاجأة الكبري التي ألقاها بوش الصغير فكانت فكرة »خصخصة المعونات« كجزء من السياسة الخارجية الامريكية. والخصخصة هنا.. تعني توجيه المعونات لجمعيات مدنية وهيئات ومنظمات تعمل في مجالات تحددها الولاياتالمتحدة.. ومعني هذا الكلام ان واشنطن لن تقدم معوناتها للحكومات »القطاع العام« وانما ستقدمها لجمعيات غير حكومية »قطاع خاص« تعمل في المجالات التي تحددها الولاياتالمتحدة.. وبعيدا عن سلطان الحكومات المحلية.. بل ان ثمة اقتراحا اثير ايامها يدعو لتقديم معونات مباشرة لبعض الاسر والعائلات التي تواجه الفقر الناجم عن الخلل الاجتماعي السائد.. كانت مصر في تلك الايام هي ثاني اكبر دولة في تلقي المعونات الامريكية بعد اسرائيل مباشرة.. وكانت للاسف هي النموذج الذي ضرب به بوش الصغير الامثال لضياع المعونات الامريكية سدي. وبدأت الازمات التي بدت ملامحها في اول لقاء بين بوش.. ومبارك.. في البيت الابيض.. تظهر علي السطح وبدأ بوش يسأل مبارك: اين تذهب المعونات التي نقدمها لك والاوضاع لا تتحسن واعتمادك علي المساعدات العربية والمعونات الخارجية يتزايد سنة.. بعد سنة؟ واجاب مبارك.. وفقا للمحاضر الرسمية.. بانه يترك هذه المهمة لرجال الاقتصاد.. وانه شخصيا ليس خبيرا في تلك الامور.. فاقترح عليه بوش الصغير الاستعانة بالاقتصادي الامريكي زولياك المسئول عن صندوق النقد الدولي.. وجاء زولياك إلي مصر بالفعل.. والتقي بالمسئولين في شئون الاقتصاد.. وقدم مقترحاته.. وعاد لبلاده بعد ان قدم الروشتة التي يراها الاكثر قدرة علي اخراج الاقتصاد المصري من عثرته.. وبقيت بعد ذلك القضية الاهم.. وهي اقناع واشنطن بان اوضاعها الداخلية.. لا تحتمل خفض المعونات.. وان تحويلها لجمعيات مدنية سوف يفقد الميزانية اموالا هي في امس الحاجة إليها لاستكمال خططها ومشروعاتها.. الخ. وعندما لم تنجح هذه المحاولات. اعادت الحكومة المصرية صياغة طلبها وطلبت من واشنطن ان توجه هذه المعونات للجمعيات المسجلة رسميا بوزارة الشئون الاجتماعية لان في مصر العديد من الجمعيات المدنية التي تعمل لحساب أجندات خاصة.. وان الحكومة المصرية ادري بما يجري علي ارضها. وبعد محاولات طويلة من جانب الحكومة المصرية استجابت واشنطن لهذا الطلب.. وبدأت تتعامل مع الجمعيات المسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية.. واستمر هذا الحال طوال فترة رئاسة بوش الصغير.. ثم التزمت بها ادارة الرئيس اوباما بعد توليه السلطة سنة 9002 وحرص الجانب الامريكي علي الالتزام بالقواعد التي كان قد تم الاتفاق عليها خلال حقبة بوش الصغير.. ولم تحدث سوي تجاوزات محدودة قدمت فيها الولاياتالمتحدة معونات ومساعدات لمنظمات امريكية تعمل بالقاهرة.. بلا تصريح ودون ان تكون مسجلة بوزارة التضامن الاجتماعي.. المشكلة بدأت بعد اندلاع الحالة الثورية في 52 يناير الماضي.. عندما اتخذت واشنطن قرارا انفراديا من جانب واحد باعادة ترتيب اولويات المساعدات الاقتصادية لمصر.. وتخصيص 06 مليون دولار من مجمل المعونة لبرامج دعم الديمقراطية.. واعادة التأهيل السياسي بصرف النظر عما اذا كانت الجمعيات الاهلية التي ستتلقي المعونة مدرجة بسجلات وزارة التضامن الاجتماعي ام.. لا.. كان التصور الامريكي يتلخص في ان ثمة ثورة سلمية تجتاح مصر. وان علي واشنطن مساعدة هذه الثورة علي تحقيق اهدافها والانتقال بالبلاد إلي حالة من الاستقرار تسمح لها باعادة الهياكل والكوادر التي تستعين بها لتحقيق اهداف الثورة. وفجأة اعلنت السفيرة الامريكيةالجديدة آن باترسون امام لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ الامريكي ان ادارة المعونة الامريكية في مصر التي يرأسها جيمس بيفر.. قدمت مساعدات ومعونات لجمعيات ومنظمات.. بعد اندلاع الثورة في 52 يناير 1102 قدرها 56 مليون دولار.. لم يكن للحكومة المصرية .. اي علم. بان السفارة الامريكيةبالقاهرة.. قدمت هذه المعونات الكبيرة لجمعيات ومنظمات تعمل علي الارض المصرية.. وهي بالتأكيد ليست مدرجة في سجلات وزارة التضامن الاجتماعي.. لانها لو كانت مدرجة لعلمت بها الحكومة. ومن الطبيعي ان يدور السؤال عن هذه المنظمات.. خصوصا ان في مصر الآن. وبعد اندلاع الحالة الثورية اكثر من 04 حركة سياسية و93 فصيلا دينيا من مختلف ألوان الطيف السياسي.. خرجت كلها من عباءة الحالة الثورية المجيدة التي اندلعت في ميدان التحرير في 52 يناير الماضي وانتقلت كالشرارة لجميع ربوع البلاد.. ويبقي السؤال الذي يجري علي ألسنة الناس في مصر: هل صحيح ان امريكا تقدم المعونات بملايين الدولارات لبعض هذه الحركات والفصائل والمذاهب؟ الاجابة هي.. نعم الأمر الذي ادي إلي الفتور الحالي بين واشنطنوالقاهرة.. وإلي البرود الذي استقبلت به الجهات الرسمية السفيرة الامريكيةالجديدة آن باترسون.. وإلي الهجوم الذي تتعرض له.. والذي دفع الخارجية الامريكية للتنديد به وبما اسمته الهجمات الشخصية علي آن باترسون.. وقالت المتحدثة بلسان الخارجية الامريكية: ان اشكال العداء لامريكا.. والتي تتسلل إلي الخطاب العام المصري تشعرنا بالقلق.. ونحن اعربنا عن المخاوف للحكومة المصرية. وهكذا عادت قضية المعونات الامريكية.. لتكون سببا في تدهور العلاقات بين القاهرةوواشنطن.. القاهرة تتهم امريكا بالتدخل في شئونها الداخلية عن طريق المعونات.. وواشنطن تقول ان الذي يمول المعونات هو دافع الضرائب الامريكي ومن حقه ان يعرف اين تذهب امواله.. سنوات طويلة..ونحن في نفس الحال.. لا نحن استغنينا عن معونات امريكا.. ولا امريكا توقفت عن تقديم المعونة.. ويبدو ان هذا الحال سوف يستمر للاسف لسنوات قادمة!