نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    شهادة تقدير ودرع المحافظة.. أسوان تكرم الخامسة على الجمهورية في الثانوية الأزهرية    تنفيذي الشرقية يُناقش خطة استثمارية ب1.14 مليار جنيه لتحسين الخدمات بالمراكز والمدن    وزير البترول يلتقي وفدا رفيع المستوى من شركة شل العالمية    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    انقسام بين قادة الاتحاد الأوروبي بعد إعلان ترامب عن الاتفاق التجاري الجديد    أطباء بلا حدود: حالات الإسهال المائي ترتفع مجددا في جميع أنحاء اليمن    «أكسيوس»: مسؤولان إسرائيليان يصلان واشنطن لبحث ملفي غزة وإيران    حجز محاكمة متهمين بوفاة لاعب كاراتيه بالإسكندرية لجلسة 22 سبتمبر للنطق بالحكم    أحمد حسن يكشف مفاجأة بشأن مستقبل حسين الشحات مع الأهلي    دون خسائر.. السيطرة على حريق بمحل مأكولات شهير في المنتزه بالإسكندرية    تكريم 30 طالبًا من أوائل الثانوية العامة في القاهرة بديوان عام المحافظة    انهيار لطيفة بالبكاء أثناء تقديم واجب العزاء ل فيروز في نجلها زياد الرحباني (فيديو)    فى يومه ال 11.. "برنامج اليوم" يتابع فعاليات مهرجان العلمين بدورته الثالثة    "فتح" تُثمن دعوة الرئيس السيسي ومواقف مصر الداعمة لفلسطين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض الوضوء؟ الإفتاء تُجيب    هل وجود مستحضرات التجميل على وجه المرأة يُعد من الأعذار التي تبيح التيمم؟ الإفتاء تجيب    في اليوم العالمي لالتهاب الكبد.. الوشم والإبر يسببان العدوى (الأعراض وطرق الوقاية)    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    البحيرة: قافلة طبية مجانية بقرية الأمل وأرياف أبو المطامير ضمن جهود العدالة الصحية غدا    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    بنك مصر يوقع بروتوكول تعاون مع دوبيزل لدعم خدمات التمويل العقاري    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    قرارات هامة من الأعلى للإعلام ل 3 مواقع إخبارية بشأن مخالفة الضوابط    تجديد حبس متهم بقتل سيدة وسرقة 5700 جنيه من منزلها بالشرقية بسبب "المراهنات"    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    الهلال الأحمر المصري يواصل دعمه لقطاع غزة رغم التحديات الإنسانية    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    طرائف الانتقالات الصيفية.. الزمالك وبيراميدز كشفا عن صفقتين بالخطأ (صور)    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد يكتب:محاكمة العقل العربي
نشر في الدستور الأصلي يوم 02 - 04 - 2010

محاكمة العقل العربي العرب جميعاً علي طريق التدهور والانهيار لن يحل الصراع العربي الإسرائيلي إلا الكفاح الشامل في الوطن العربي عدد من المفكرين المخلصين ولكن تأثيرهم محدود المفكرون العرب لم تسفر جهودهم عن إيجاد تيار يماثل ما أحدثه فلاسفة فرنسا قبل الثورة الفرنسية وأدباء روسيا قبل الثورة الفرنسية تضاؤل أثر المفكرين العرب سببه إمكانيات الدولة العربية في محاربتهم الاستسلام العربي لا يتضمن توقيع معاهدات مع إسرائيل ولكن من لديهم أسلحة لا يستخدمونها
توقيع إتفاقية كامب ديفيد
سألته عن المفكرين العرب البارزين في عصرنا الراهن، عبد الله العروي والطيب تزيني وأنور عبدالملك وسمير أمين، لماذا لا يشكلون تياراً فكرياً له ملامحه المميزة؟
نعم يوجد عدد لا يستهان به من المفكرين العرب البارزين الذين نذر البعض منهم حياته للتفكير في أوضاع أمته وتشخيص عللها ورسم طريق الخلاص أمامها، لكن التأثير العام لهؤلاء المفكرين محدود فهم لم ينجحوا - كما لاحظت في سؤالك - في خلق تيار فكري عربي واضح المعالم، وفي تحويل جانب ملموس من الأمة العربية في اتجاه التحرير الاجتماعي والاستنارة الفكرية، ولم تسفر جهودهم عن إيجاد تيار يماثل ذلك الذي أحدثه فلاسفة فرنسا وأدباؤها في القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنسية. أو أدباء روسيا ومفكروها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الروسية.
والسبب الرئيسي لظاهرة تضاؤل الفعالية والتأثير، هو الإمكانيات الجديدة المتاحة لأجهزة الدولة في الميدان الثقافي والإعلامي. وهي الإمكانيات التي تستخدم في محاربة أي نوع معارض من الفكر. وفي التبريرية المنافقة. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم تكن الدولة تملك قدراً ضئيلاً من القدرات التي تملكها الدولة المعاصرة، ومن ثم كان الصراع علي المستوي الفكري، يدور بين اتجاهات فكرية ذات إمكانيات متقاربة. فكان من الطبيعي أن يكتب الانتصار لتلك الاتجاهات التي تحس بنبض الجماهير، وتعبر بصدق عن آمالها في مستقبل أفضل، أما في الوقت الراهن، وفي البلاد العربية بالذات، فإن الدولة تدخل بكل ثقلها من أجل تغليب فريق وحجب فريق، ولم يعد في استطاعة المفكر أن يوصل صوته بوضوح إلي الجماهير العريضة إلا باستخدام بعض وسائل الإعلام وأجهزة نشر الثقافة التي تسيطر الدولة علي معظمها.
ومع ذلك فإن المفكرين العرب يخوضون معركة بطولية، ويتحدّون أجهزة الرقابة ووسائل الإعلام الخاضعة للحكام، ويحاولون أن يوصلوا كلمتهم إلي الجماهير.
فإذا كان تأثيرهم محدوداً، فلا بد أن نذكر الأمية المتفشية في العالم العربي، حيث حالت دون انتشار الكلمة المقروءة بين الغالبية العظمي من الناس.
ومن ناحية أخري، يبدو لي أن الشعوب العربية تمر بحالة من التبلد الذهني تمنعها من التجاوب بحماسة مع أي دعوة فكرية توجه إليها - مهما كان مدي إخلاصها - فهذه الشعوب إما غنية، وإما فقيرة إلي حد الكفاف. وفي كلتا الحالتين يصعب أن يكون للفكر تأثير لأن الشعوب الغنية لاهية في ثرائها مستمتعة بالحياة الاستهلاكية الباهظة التكاليف، غارقة في الترف المادي إلي ذقونها. أما الشعوب الفقيرة فتلح عليها مطالب الحياة اليومية، وتنشغل بلقمة العيش الضرورية إلي الحد الذي لا يترك لها فرصة الاهتمام بالمسائل الفكرية. ففي كلتا الحالتين - حالة الثراء الشديد والفقر الشديد - تبدو كلمة العقل غريبة علي الأذن، وتطرق أبوابًا صماء، وتنادي فلا يسمع لها الغارقون في الترف ولا الغارقون في البؤس.
الأزمة العربية:
يمر الوطن العربي حالياً بأخطر أزمة في تاريخه الحديث - والسؤال عن أبعاد الأزمة - فالأزمة هي المرحلة التي يخرج منها الوضع إما إلي التدهور أو الانفراج.
اتفق معي الدكتور زكريا في ذلك، وأكد أن الأزمة التي يمر بها العرب هي بالفعل أخطر أزمة في تاريخهم الحديث، أما الأبعاد الداخلية فقد تحدثت عنها من قبل. وهي تتمثل في وجود مجموعة لا تحمد عليها أنظمة الحكم. تجمعت كلها في موقف واحد وفي مرحلة حاسمة في تاريخنا. ولكي يسند بعضها بعضاً (مهما اختلفوا في الظاهر) ضد الشعوب العربية. ولكي يحققوا تفاصيل المخطط الذي أراده الأعداء. وأنا لا أعد مجتمع هذه الأنظمة - في الوقت الراهن بالذات - مجرد صدفة بل إنها قطعاً مرسومة، وضعتها تلك التي تستهدف السيطرة علي المنطقة وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. والدليل علي ذلك هو أن تلك البلاد التي لم تكن تعرف معني الاستقرار في الحكم - والتي كانت الانقلابات تتعاقب عليها عاماً بعد عام - أصبحت تتمتع بحكم مستقر منذ عشر سنوات. وفي نظري، أن أمريكا والصهيونية تسعي إلي الحصول علي أفضل استثمار ممكن لهزيمة الأمة العربية في يونيو 1967، ولذلك حافظت علي أنظمة الحكم التي كانت من قبل تتلاعب بها بعد أن ضمنت أن هذه هي التي ستحقق لأعداء العرب أفضل عائد ممكن في هزيمة 67.
ويقودنا هذا إلي الأبعاد الخارجية للأزمة، وهي تتمثل في جانبين رئيسيين:
الجانب الأول الانتصارات المتزايدة - في السلم وفي الحرب - لإسرائيل علي العرب واستسلام القيادات العربية لرغبات إسرائيل كما لو كانت قوة قاهرة يستحيل مقاومتها، وحين أتحدث عن الاستسلام العربي، فأنا لا أعني بذلك توقيع المعاهدات التي تضمن وجود إسرائيل وتحقيق أمنيتها في الاعتراف بها فحسب، بل أعني أيضاً استسلام من يملكون أسلحة ولا يستخدمونها؛ ومن يتظاهرون بالنضال والكفاح وهم في الواقع سلبيون علي الصعيد العلمي. الأمة العربية أوشكت علي تحقيق أهدافها البعيدة المدي وهي أن تنغرس في حضارتها دولة عدوانية نشيطة شديدة الطموح في قلب حضارة منهارة خائرة فتستخدم شعوبها لأغراضها الخاصة، وتتوسع في داخلها كما تشاء. وتعامل سكانها معاملة التابعين الأذلاء الذين يستخدمهم الغزاة مجرد أدوات لتحقيق أطماعهم.
أما الجانب الذي يرتبط بالجانب السابق أوثق الارتباط، فهو سير الأمة العربية في ركاب عدوة العرب المنطقية؛ أي الولايات المتحدة الأمريكية. وأنا أعتبر أن من علامات الساعة - بالنسبة إلي الأمة العربية - أن يزداد العرب اقترابا من أمريكا وانحيازاً لسياستها في نفس الوقت الذي أسفرت فيه أمريكا عن أبشع نواياها إزاء العرب في المرحلة الثانية من حرب 1973، فقد دخلت أمريكا هذه الحرب ضدنا صراحة، وباعتراف زعمائنا المنحازين إلي أمريكا وكانت حريصة علي ألا تهزم إسرائيل، وعلي أن تظل لإسرائيل اليد العليا في ميدان السلاح. وكانت كل الدماء التي سالت بين أبناء الأمة العربية إدانة صارخة للعداء الأمريكي تجاه العرب. ومع ذلك تحولت أمريكا في هذه اللحظة بالذات إلي صديقة وحليفة! كيف؟ لا أدري، ولكنه كما قلت من علامات الساعة. ومن الدلائل التي لا تخطئ علي أن هناك أمة بأكملها في طريق الانهيار. ولا تبدو أدني بادرة توحي بأن الأمة ستنتشل نفسها من الهوة العميقة التي تقترب منها يوماً بعد يوم.
البديل:
النموذج الأمريكي مرفوض. ولكنها مرحلة تمر بها المنطقة فما البديل للنموذج الأمريكي الذي لا يقبله بعض المثقفين التقدميين العرب؟
ويرد عليَّ، صاحب الدراسة المهمة «العرب والنموذج الأمريكي»:
أعتقد أنك تقصد، من هذا السؤال، النموذج الأمريكي في الميدان الداخلي أي في الاقتصاد وتنظيم المجتمع. وأنا أعتقد أن هذا النموذج هو أبعد النماذج عما يصلح لبلاد العالم الثالث. لو كان في هذا النموذج أي فائدة لأفادت منه البلاد التي هي أقرب إليه، والأشد حرصاً علي تطبيقه. ومع ذلك فإنه أخفق إخفاقاً شنيعاً، في بعض البلاد مثل تركيا وتايلاند وإيران في عهدها السابق ومعظم دول أمريكا اللاتينية. ففي هذه الحالات جميعاً تعمل أنظمة الحكم علي تطبيق النموذج الأمريكي في جميع تفاصيله، فتسير علي نظام الاقتصاد الحر، وتقلل من تدخل الدول في مجال الخدمات إلي الحد الأدني، وتترك العلاقات بين أصحاب العمل والعمال تنظم من خلال صفقات ثنائية، إلي آخر تلك السمات المعروفة التي تميز النمط الأمريكي. ومع ذلك فإن الأوضاع في هذه الدول متردية إلي أقصي حد. والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية تزداد استفحالاً، وإحساس الفرد بالأمان علي حياته ومستقبله وعمله يكاد يكون منعدماً.
وهذا في رأيي أمر طبيعي لأن النموذج الأمريكي - كما أوضحت في الكتيب الذي نشر لي حول هذا الموضوع - ظهر في ظروف فريدة ويستحيل أن يتكرر حتي في العالم الغربي ذاته. أما في العالم الثالث فإن هذا النموذج يقضي علي الكيانات إذ يؤدي إلي تخصيص الموارد من أجل إشباع الرغبات الاستهلاكية التي تزيد هذه البلاد اعتمادا علي الدول المتقدمة صناعياً بدلاً من تكدس هذه الموارد من أجل إيجاد تنمية حقيقية. والشيء الذي تحتاجه دول العالم الثالث هو التخطيط الاجتماعي الشامل للموارد وأوجه الإنفاق بحيث توضح للمجتمع أولويات محدودة يلزم بها الجميع ويتخلي الناس عن وهم الحرية الاقتصادية الذي يؤدي في الواقع إلي ثراء القلة وشقاء الكثرة. مثل هذا النموذج قد يقترب كثيراً من الاشتراكية. ولكن من واجب كل مجتمع أن يطبقه بالطريقة التي تتلاءم مع ظروفه الخاصة. فالمبدأ العام هو التخطيط العلمي المدروس لموارد المجتمع وطاقاته. أما التطبيقات فمن الواجب أن يكون فيها مرونة تسمح بمراعاة السياق الخاص الذي سيطبق في التجربة.
والصراع مع العدو الصهيوني:
النموذج الأمريكي يقودنا إلي العدو الصهيوني. أسألك عما يقال مؤخراً من أن المشاكل الأساسية في الصراع العربي الإسرائيلي هي مشاكل نفسية وتصدي بعض علماء النفس في مصر للحديث بها الطريقة؟
قال لي الدكتور فؤاد زكريا:
- حتي لو كان الصراع بين العرب وإسرائيل صراعاً نفسياً، فإن هذا لا يغير من واقع الأمر شيئاً. ذلك لأن الصراع النفسي يحدث دائماً نتيجة لظروف واقعية وموضوعية هي التي تؤدي إلي الكراهية الشديدة وتأجج مشاعر العدوان ولكن هذا الوجه النفسي للصراع لم يكن في واقع الأمر إلا انعكاساً للجوانب الموضوعية في الصراع بين نظامين يتعارضان أشد التعارض وفلسفتين تقفان علي طرفي نقيض.
وعلي ذلك، فمن الممكن أن نسلم جدلاً برأي القائلين إن بيننا وبين الإسرائيليين صراعاً نفسياً حاداً. ولكن هذا لا ينفي وجود عوامل موضوعية أساسية في هذا الصراع بل إن الجانب النفسي ما هو إلا نتيجة ومظهر خارجي لعوامل أخري أهم. من المحال أن تكون بيننا وبين الإسرائيليين كراهية لمجرد أننا لا نستلطفهم أو لأن أفكارنا المسبقة عنهم خاطئة. فالتاريخ الطويل للصراع العربي الإسرائيلي والمعروف للكافة بأهداف الخصم وأطماعه والوسائل التي يتبعها من أجل تحقيق هذه الأهداف. كل هذا كفيل بأن يجعل للصراع معه أسساً محددة. لا تبني علي الوهم أو التخيل، لقد تعاملنا معهم طويلاً وعرفناهم عن كثب وذقنا مرارة الحرب معهم مرات عديدة. وهذا كله لا يدع أي مجال للاعتقاد بأن الأمر كله خطأ أو سوء تفاهم.وحقيقة الأمر أن إسرائيل مجتمع توسعي، يوهم نفسه بأن هدف التوسع هو الدفاع عن نفسه وتأمين حياته. وهكذا فإن كل قطعة أرض جديدة يضمها أو ينشئ فيها مستوطنة يتم الاستيلاء عليها بحجة الدفاع عن النفس. وتبرر إسرائيل تصرفها أمام العالم بأنها دولة صغيرة مسكينة تحيط بها دول أكبر تريد الانقضاض عليها ولكن الواقع أن هذا التوسع، بحجة التأمين، يمثل نمطاً فريداً في السلوك الدولي. فلا شك أن الاتحاد السوفييتي سيشعر أنه أكثر أماناً لو استولي علي إيران، وأمريكاً ستكون أكثر أماناً لو استولت علي كوبا، وتركيا ستكون أكثر أماناً لو ضمت إليها قبرص. ولكن هناك شيئًا اسمه الشعب الأصلي المقيم في هذه المناطق المطلوبة لتأمين بلداً آخر له كيانه. هذان شيئان لا تعمل إسرائيل لهما حساباً في سعيها المزعوم إلي الأمان ومن هنا كان هناك تعارض أساسي في المصالح بين إسرائيل بتكوينها الراهن وبين العرب، ومثل هذا التعارض لا يمكن اختزاله إلي مجرد مشاعر نفسية، بل إنه لا يحل إلا علي مستوي الكفاح الشامل، الذي يعني تعبئة كل الموارد البشرية والاقتصادية والقدرات السياسية من أجل مواجهة العدو والقوي المساندة له في جميع الميادين.
أما الأمور الأخري فهي مؤقتة. ولا يمكن أن تغير من الطبيعة الإسرائيلية شيئاً. فها نحن نري إسرائيل وقد حصلت علي الصلح والسلام، والعلاقات الطبيعية، والاعتراف الكامل من أكبر دولة عربية - وهذا مكسب لا يستهان به - كان المفروض أن يهدئ من مزاجها كثيراً لو كانت المسألة نفسية بحيث نلمس لها أنماطاً من السلوك تختلف عما ألفنا من قبل. ولكن الواقع أن عدوانية إسرائيل لم تقل ونفسيتها لم تهدأ وسعيها إلي التوسع لم يتوقف، بل يمكن القول إن الاطمئنان الذي حصلت عليه إسرائيل علي الجبهة المصرية، قد فتح شهيتها إلي المزيد من التوسع والتشدد في التعامل مع خصومها مما يثبت بوضوح أن إسرائيل نفسها لا تنظر إلي صراعها مع العرب علي أنه صراع نفسي علي الإطلاق.
فلاسفة أم وكلاء؟:
كان السؤال الأخير حول من يقولون عن أنفسهم فلاسفة في الوطن العربي. هل هم كذلك؟ أم مجرد حملة توكيلات عن اتجاهات فلسفية في العالم اليوم؟
رد الدكتور فؤاد زكرياً:
- تتوقف الإجابة عن هذا السؤال علي المقصود من كلمة فلاسفة، فإن كان المقصود منها مفكرين لديهم القدرة علي تنظير الواقع وكشف الأسس الفكرية التي تربط بين ظواهره فمن المؤكد أن لدينا فلاسفة كثيرين بهذا المعني. أما إذا كان المقصود تشييد بناءات نظرية مكتملة، أو مذاهب شاملة تعالج كل ما يدخل في نطاق المعرفة البشرية من تطور فكري خالص علي نحو ما فعل أرسطو أو هيجل مثلاً، فإننا لا نعرف بالفعل في بلدنا فلاسفة من هذا النوع. ومعظم من حاولوا أن يعرضوا مذهباً فكرياً ويدافعوا عنه في بلادنا هم في واقع الأمر ممثلون لمذهب ظهر في الخارج بصورة مستقلة كالوجودية والماركسية أو الوضعية المنطقية. علي أننا لا ينبغي أن ننظر إلي هذا الأمر علي أنه يعبر عن نقص في طبيعتنا. لأنه من الجائز جداً أن الحاجة إلي المذاهب الفكرية الشاملة غير قائمة في مجتمعنا. وقد ظهرت هذه المذاهب في الغرب سواء في اليونان القديمة أو في أوروبا الحديثة (التي تعتبر من الناحية الفلسفية امتداداً لليونان القديمة بلا جدال) ظهرت في ظروف معينة لم تتكرر في مجتمعاتنا ولذلك لم تستشعر مجتمعاتنا الحاجة إلي إقامة مذاهب فلسفية تضع ظواهر الطبيعة والإنسان كلها في إطار واحد وتتأملها من منظور واحد. والواقع أن ما ينبغي أن نأخذه من فلسفات الغرب الشاملة. هو المعني وليس المضمون. فالوضعية المنطقية تستخدم منهجاً في التحليل الدقيق قد يكون مفيداً في معالجة كثير من المشكلات التي تستخدم فيها لغة فضفاضة وألفاظاً غير محدودة المعني ولكنها كمضمون تصل إلي نتائج لا يمكن قبولها. كالاعتقاد بأن مهمة العلم الاجتماعي هي وصف الظواهر بطريقة تقديرية والامتناع عن إصدار أحكام لها أي قدر من العمومية، وبذلك تتحول دراسة المجتمع عندها إلي تحليل للجزئيات وتضع الصورة العامة والعوامل الخلفية التي تتحكم في ظواهره السلبية. هذا مجرد مثل أضربة للعلاقة التي يمكن أن تربطنا بالمذاهب الفلسفية التي تظهر في مجتمعات غير مجتمعاتنا. وعلي أي حال فأنا أعتقد أن المشاكل الواقعية الملحة التي تعاينها مجتمعاتنا تفرض علينا نوعاً من الفكر الموجه إلي معالجة مشكلات محددة. بدلاً من أن يكون موجهاً إلي معالجة مشكلات كونية شاملة. ويبدو لي أن هذا النوع الأخير من المعالجات الفكرية الشاملة ينطوي علي نوع من الترف الفكري الذي لا نملكه في الوقت الراهن. وعلي أي حال فإن العصر لا يحبذ مثل هذه المذاهب حتي في البلاد التي اعتادتها في عصور ماضية. وإنما تتجه الفلسفة فيه علي نحو متزايد إلي التركيز علي مشكلات محددة بدلاً من إقحام نفسها في كل ما يقع في نطاق الوعي الإنساني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.