تحتاج مصر إلي مصارحة ومكاشفة وشفافية يتجلي فيها صدق الوطنيين في مواجهة أزمة يعترف الجميع بوجودها وبصعوبة التوصل إلي حل لها. لكن الطريق الوحيد للحل هو المناقشة العامة التي تتيح لكل الآراء والأفكار أن تتصارع، ولكل الحقائق أن تظهر. لذلك فإنني أعتبر القنبلة التي ألقي بها مصطفي الفقي في وجوهنا بداية لحوار وطني حول مستقبلنا، ومواجهة جادة لأزمتنا. هذا التصريح يشكل صدمة لشعورنا الوطني، وضربة لاعتزازنا بالاستقلال الذي نتغني به منذ جلاء الإنجليز عن مصر، ونعتبره أهم إنجازاتنا. لكننا بالفعل نحتاج إلي تلك الصدمة لكي نعيد صياغة معني الاستقلال، ونبني مشروعاً وطنياً للمحافظة عليه وحمايته. رجل النظام هذا التصريح يأتي من أحد أركان النظام، فقد شغل الرجل منصباً مهماً، وعمل بجوار الرئيس لفترة طويلة، وكان له دور في صياغة سياسات النظام المصري. وتقديراً لأهميته فقد ارتكب النظام جريمة تزوير الانتخابات لكي يضمن وجوده في مجلس الشعب. هذا يعني أن النظام حريص علي وجود مصطفي الفقي ليقوم بدور مهم في خدمته، وهو بالفعل يتمتع بالكثير من القدرات التي تؤهله للقيام بهذا الدور، وهو أيضاً يمتلك الكثير من الأسرار الخطيرة بحكم عمله بجوار الرئيس، لذلك لابد أن تعمل كل أجهزة الحكم علي إرضائه حتي لو كان الثمن تزوير الانتخابات وإعلان نتيجة مختلفة تماماً عن نتيجة فرز الصناديق. العلاقة بين الفقي وأجهزة الدولة قوية جداً وتفرض علي كل طرف أن يعمل علي إرضاء الآخر، لذلك لا يمكن أن نتصور أن تصريح الفقي جاء نتيجة لغضبه علي النظام، أو أنه قرر فجأة أن يسدد ضربة قاتلة لنظام قضي عمره يخدمه ويدافع عنه ويشارك في صياغة سياساته. الفقي يؤكد أن الشرط الأساسي لشغل منصب رئيس الجمهورية هو موافقة أمريكا وإسرائيل، وأنه دون هذه الموافقة لا يمكن أن يصل أحد إلي رئاسة الجمهورية مهما بلغ من العلم.. فالطريق الوحيد للوصول إلي هذا المنصب هو إرضاء أمريكا وإسرائيل !!. إن كان الرجل صادقاً فيما يقول فتلك أعظم المصائب التي نتعرض لها، فأي إهانة لشعورنا الوطني أسوأ من الاعتراف بأنه ليس من حقنا أن نختار رئيسنا، وإنما تختاره لنا أمريكا وإسرائيل !! لقد قدم أجدادنا الكثير من التضحيات من أجل الاستقلال، وبعد أكثر من نصف القرن من تحقيقه، يأتي رجل يتمتع بصفة رسمية وأهمية كبيرة في النظام ليقول لنا بوضوح إنكم لا تستطيعون أن تختاروا رئيسكم، فاختيار الرئيس شأن أمريكي إسرائيلي !. لماذا لم يحاسبوه ؟!. انتظرت لفترة طويلة قبل أن أكتب في انتظار أن ترد الحكومة علي تصريح الفقي، وأن يصدر تكذيب رسمي من الحزب الوطني، وأن تقوم الصحف القومية ومحطات التليفزيون الرسمية بشن حملة علي الفقي دفاعاً عن السيادة الوطنية التي تتغني بها تلك الصحف ومحطات التليفزيون. لكن الجميع التزم الصمت ولم يدافع أحد عن وطنيتنا حماها الله!. لماذا؟ إذا كان تصريح الفقي مصيبة فالصمت في مواجهته كارثة. هل يمكن أن نتصور هذا الصمت علي كلام يعني أن مصر ليست مستقلة، وأن شعبها لا يمكن أن يختار رئيسه، وأنه ليس هناك ديمقراطية ولا حرية ولا دستور ولا انتخابات، فأمريكا هي التي تختار لنا رئيسنا بعد موافقة إسرائيل.. ثم يصاب نظامنا بالخرس فلا يتطوع أحد رجاله للرد علي الفقي؟ لماذا لم يتعرض الفقي للمحاسبة علي مستوي حزبي وسياسي، ألم يشعر الحزب الوطني والحكومة بما نشعر به من إهانة؟ ألا تعرف الحكومة أن هذا التصريح سوف يزيد السخط الشعبي عليها؟ ولماذا لا يرد كتاب الحكومة؟ هل يشكل ذلك اعترافا بصحة تصريح الفقي، أو أن النظام كله يخاف من الفقي لأنه يمتلك الأدلة علي صحة ما يقول، فلا يمكن أن نتصور أن رجلاً بحجم الفقي يقول كلاماً لا يمتلك الأدلة والبراهين علي صحته؟ الصمت علامة الرضا هناك تفسير آخر لصمت الحكومة وحزبها الوطني عن تصريح الفقي هو أنه كان يعبر بتصريحه عن النظام، ويلقي بقنبلة لتحقيق أهداف بعيدة المدي. فقد بدأت محاولات لترشيح شخصيات يمكن أن تتمتع بقدرات تنافسية، مثل البرادعي وعمرو موسي. وفي ضوء رغبة الشعب في التغيير والتي يعرفها النظام جيداً، فإن ترشيح شخصيات تتمتع بمكانة علمية أو أهمية سياسية قد يشكل خطراً، لذلك دفع النظام رجله القوي مصطفي الفقي ليقول لنا بوضوح : لا تحلموا فلا يمكن ترشيح شخصية لا ترضي عنها أمريكا وإسرائيل، ولذلك فالأمر محسوم مسبقاً لمرشح الحزب الوطني، وأن الانتخابات مجرد مسرحية. هذا التفسير يكتسب أهميته من دراسة الأعمال التي قام بها النظام خلال السنوات الماضية، وأنه يحاول إرضاء أمريكا وإسرائيل بكل الأساليب ومن بينها بناء الجدار الفولاذي الذي يهدف إلي تجويع الشعب الفلسطيني في غزة، وإرغامه علي الاستسلام للشروط الإسرائيلية !! يضاف إلي ذلك أن سلوك النظام في مواجهة قافلة «شريان الحياة» يؤكد رغبة النظام في إرضاء إسرائيل حتي لو كان الثمن تشويه صورة مصر في العالم، وتحويلها إلي شرطي يحمي أمن إسرائيل. كما أن سلوك النظام المصري في مواجهة قافلة «شريان الحياة» كان تعبيراً عن حالة عصبية أصابت النظام، وجعلته يفقد القدرة علي التفكير في عواقب هذا السلوك علي علاقات مصر بالكثير من الدول التي تعرض شخصيات برلمانية مهمة ينتمون لها لانتهاك حقوقهم. تلك الحالة العصبية الانفعالية التي تفقد النظام السيطرة علي الكلمات أصابت أيضا نواب الحزب الوطني عند مناقشة بناء الجدار الفولاذي. هل تعني تلك الكلمات والتصرفات أن النظام فقد أعصابه، ولم يعد قادراً علي التفكير في العواقب، وأصبح كل ما يهمه أن يحقق التوريث بأي ثمن. وفي إطار حالة الانفلات العصبي جاء تصريح مصطفي الفقي ليقول لنا بكل بساطة إن أمريكا وإسرائيل تتحكم في قراراتنا وفي تشكيل مستقبلنا، وأنه ليس من حق الشعب المصري أن يختار رئيسه. مشروع وطني ولكن مهما كان تفسير الخرس الذي أصاب النظام، فإن كل القوي الوطنية، يجب أن تبدأ مرحلة جديدة من الكفاح لحماية استقلال مصر والدفاع عن حقنا في أن نبني نظاماً ديمقراطياً، وأن نختار رئيسنا ونوابنا بحرية، وأن نشكل أحزاباً جديدة تقدم مشروعات وطنية لتحقيق النهضة والتقدم، وأن نصدر ما نريد من صحف تعبر عن اتجاهات سياسية مختلفة. يجب ألا ننتظر تكذيب النظام لمصطفي الفقي، لكن يجب أن نرد عليه بأن نبدأ مرحلة جديدة من الكفاح الوطني لحماية حرية الوطن واستقلاله، والتأكيد علي حرية المواطن وحقوقه وأهمية صوته في الانتخابات، ورفض أي محاولة لتزوير إرادة الشعب. هذه المرحلة من الكفاح لا تقل أهمية عن كفاح آبائنا وأجدادنا ضد الاحتلال البريطاني، بل هو استكمال لهذا الكفاح. فإن كان الجلاء قد تحقق فإننا لابد أن نكمل استقلالنا برفض أي تدخل أجنبي في شئوننا والتأكيد علي حقنا الكامل في الدفاع عن وطننا وحماية استقلاله، وصياغة علاقاته مع كل الدول انطلاقاً من هذا الاستقلال. المرحلة الجديدة من الكفاح يجب أن تبدأ بالدعوة إلي انتخابات جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد، وأن يكون من أهم مواد هذا الدستور كفالة حق كل مواطن مصري في الترشيح للانتخابات ابتداء من انتخابات المجالس المحلية حتي انتخاب رئيس الجمهورية، وأن يفرض الدستور الجديد عقوبات قاسية علي كل من يحاول أن يزور الانتخابات، بالإضافة إلي حماية حق كل مواطن مصري في التعبير عن الرأي والحصول علي المعلومات وإصدار الصحف. تصريح الفقي يشكل صدمة لشعورنا الوطني... لكننا في أشد الحاجة لهذه الصدمة لعلها تشكل بداية لمرحلة جديدة من الكفاح تتفق فيها كل القوي الوطنية علي مجموعة من الثوابت من أهمها حماية الاستقلال والحرية والديمقراطية، ثم نختلف بعد ذلك كما نشاء لكي يتحول اختلافنا إلي مناقشة حرة لكل مشاكلنا. حماية استقلالنا أهم قضايانا الوطنية، وهي قضية يجب أن نتفق عليها ثم نختلف كما نشاء، ومن أهم مظاهر الاستقلال أننا نختار رئيسنا وحكامنا بحريتنا وإرادتنا، ولا نسمح لأحد أن يتدخل في هذا الاختيار. كما أنه من حقنا أن نختار لنا رئيساً يدافع عن استقلال مصر، ويقدم مشروعاً حضارياً لتحقيق نهضتها وتقدمها وحماية حرية شعبها، وحقوق مواطنيها.