يقول مسافرٌ في الباص لا شيء يعجبني لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع علي التِّلال أريد أن أبكي يقول السائق: انتظر الوصول إلي المحطة وابكِ وحدك ما استطعت تقول سيدةٌ: أنا أيضاً أنا لا شيء يعجبني دلَلْتُ ابني علي قبري فأعجبه ونام ولم يُوَدِّعني يقول الجامعي: ولا أنا لا شيء يعجبني درست الأركيولوجيا دون أن أجد الهوية في الحجارة هل أنا حقاً أنا؟! ويقول جنديٌّ: أنا أيضاً أنا لا شيء يعجبني أُحاصر دائماً شبحاً يُحاصِرُني يقول السائق العصبي: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة فاستعدُّوا للنزول فيصرخون: نريد ما بعد المحطة فانطلق أمَّا أنا فأقول: أنزِلني هنا أنا مثلهم لا شيء يُعجبني ولكنِّي تَعِبْتُ من السفر كانت هذه قصيدته: لا شئ يعجبني، وهكذا كان هو، مر في حياتنا ذات يوم ولايزال في حضرة الغياب علي أوراق الزيتون يغني، ويهش العصافير التي بلا أجنحة، عاشق من فلسطين لم يترك الحصان وحيداً وقدم لنا آخر الليل بطاقة هوية: »سجل..أنا عربيلا أصغر أمام بلاط أعتابك فهل تغضب».هو لم يترك العصافير تموت في الجليل، ولم يقدم لنا ورداً أقل، ولا أعتذر عما فعل الحصار والاحتلال بنا فحبوب سنبلة تجف، ستملأ الدنيا سنابل. كان محمود درويش من أهم زهور سلة خبزنا اليومي في الشعر مع مجايليه سميح القاسم والفيتوري ونازك الملائكة وملك عبد العزيز وصلاح عبد الصبور وعبدالوهاب البياتي وأدونيس، وكان علي الضفة الأخري من النهر صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وفؤاد حداد وغيرهم ممن مثلت أشعارهم بالنسبة لجيلي رؤية ونافذة وتحريضا. عرفت وجيلي محمود درويش أكثر عندما تلقفنا بلهفة كتاب الراحل الكبير رجاء النقاش »محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، وأدعو دار الهلال أن تقدم لأبنائنا الشبان طبعة جديدة منه، ثم تابعنا دواووينه عصافير بلا أجنحة وأوراق الزيتون وعاشق من فلسطين وآخر الليل والعصافير تموت في الجليل، وبقية أعماله التي ازدادت مع الزمن تعقيداً ولفتها غلالة من الفلسفة والشجن خصمت من غنائية محمود درويش لتضيف إلي غناه ثراء فكرياً جسد أزمة المثقف والمفكر وتوقه للانعتاق والخلاص والحرية في عذابات الاغتراب واللاوطن، وراح يحن لخبز أمه، فالأم وطن، والأم سكن والأم تاريخ وذكريات لاتعرف النسيان: »أحن إلي خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وتكبر فيَ الطفولة يوماً علي صدر أمي، وأعشق عمري لأني، إذا مت، أخجل من دمع أمي». كما مواطنه المفكر إدوارد سعيد، مارس درويش السياسة، أصاب وأخطأ، لكن خطيئته الكبري لم تكن سوي اجتهاده لفهم العالم وتصاريف الدنيا ومصير الإنسان. عاني كما إدوارد سعيد عذابات ما بعد الكولونيالية و»خارج المكان» حيث المنفي والغربة حتي علي أرض الوطن. توالت دواووينه: لاتعتذر عما فعلت، الحصار، في حضرة الغياب، كزهر اللوز أو أبعد، حيث كتب: لوصفِ زهرِ اللوز، لا موسوعةُ الأزهارِتسعفني، ولا القاموسُ يسعفني... سيخطفني الكلامُ إلي أحابيلِ البلاغةِ،.. فكيفَ يشعُّ زهرُ اللوز في لغتي أنا، وأنا الصدي وهو الشفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتتْ، علي الأغصانِ من خفرِ النَّدي... وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ... وهو الضعيفُ كلمحِ خاطرةٍ تطلُّ علي أصابِعنا، ونكتبها سدي. في أخريات أيامه كان درويش شفيفاً كما زهرة اللوز، عفياً شامخاً كما الشجرة العتيقة التي أنبتتها، لكنه كان قد تعب من الترحال والحصار والاحتلال والمطاردة والسفر، آثر أن ينزل في المحطة الأخيرة فقد استوعب في رحلته الطويلة أنه مثلنا جميعاً لاشئ يعجبه، لكنه كان قد تعب من السفر والباص والسائق والراديو وصحف الصباح، فراح يكتب أشعاراً لذاته في التيه والنضال والترحال والثورة. هل كان فعلاً يكتب نفسه وتجربته، أم تراه كان يكتبنا؟