دراويش عبدالناصر كل منهم يمسك بميزان يظن أنه العدل المطلق، أما مناوئوه فيعيشون نفس الاحساس مع موازينهم، وبين هذا أو تلك ربما تضيع الحقيقة ويزيف التاريخ. هذه السطور تستعرض ميزان رجل كان الأقرب لرجال الثورة، وتستعرض أيضا ميزان آخر لاستاذ جامعي يقارب عمره عمر الثورة ذاتها. عام 1986 وقبل وفاته بأحد عشر عاما قدَّم الكاتب الصحفي الكبير حلمي سلام كتاب »أنا وثوار يوليو»، وحلمي سلام هو صاحب المركز الأول في جائزة فاروق الأول للصحافة عام 1949 مناصفة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل ثم فاز بها أيضا في دورتها في العام التالي 1950. وبعد 22 عاما وفي الذكري المئوية لميلاد عبد الناصر والذكري 66 لثورة يوليو أعادت ابنته د.آمال حلمي سلام الأستاذة الجامعية نشر أربعة فصول من الكتاب وصفت فيه حديث حلمي سلام عن ثورة يوليو وثوارها أنه لم يكن حديث المراقب أو المحلل عن بُعد، إنما حديث رجل ارتبط بأولئك الثوار وبثورتهم منذ أن كانت جنيناً في رحم الغيب. وتستطرد د.آمال في مقدمة الكتاب أن دورها اقتصر علي الربط والتنسيق وإضافة تعليق هنا وهناك حين دعت الضرورة إلي ذلك. حلمي سلام بدأت علاقته بأعضاء التنظيم منذ عام 1949 حيث ارتبط بستة منهم في هذا العام علي رأسهم جمال عبدالناصر ومن قبلهم كان ارتباطه بالسادات عام 1947 من خلال عمله الصحفي عندما كان يقوم بتغطية محاكمة المتهمين بقتل أمين عثمان وزير المالية وكان السادات من بينهم. ويشير سلام إلي أن قربه من ضباط التنظيم الأحرار جعل الكثيرين يعتقدون أنه ضابط في الجيش ومن بين أعضاء التنظيم وساعد في هذا الاعتقاد كونه كان موظفا مدنيا في إحدي إدارات القوات المسلحة وترك وظيفته عام 1944 ليتفرغ للصحافة. يحكي حلمي سلام قصة أول لقاء في منزله المجاور لمنزل عبد الناصر في يونيو 1949 حين دعا إلي الغداء في بيته الضابط معروف الحضري أحد أبطال حرب فلسطين وفوجئ به يطرق الباب ومعه شخص آخر وقدمه له هذا الصاغ جمال عبد الناصر عندما عرف أني قادم إليك طلب الحضور معي فهو في شوق للتعرف عليك. ويصف حلمي سلام من اللقاء الأول أن الصاغ جمال عبد الناصر كان أشبه بالمحاضر الذي يطرح الأسئلة ويستمع إلي الإجابات ولا يعلق وكأنه يعرفها مسبقا، فكان يلقي بالسؤال تلو السؤال. وبعدها بأيام اصطحب ناصر حمدي عاشور وعبد الحكيم عامر إلي بيت حلمي سلام وقدمه له قائلا زميلي وصديقي عبدالحكيم عامر بس خد بالك حيدر باشا يبقي خاله، وعندما اعترت الدهشة وجه حلمي سلام قال له لن تندهش إذا علمت أنني أعتبر نفسي وعبدالحكيم شخصا واحدا. واستمر التعارف إلي باقي أعضاء التنظيم ومنهم صلاح سالم وحسن إبراهيم وعبد اللطيف بغدادي. وسارت الأمور بحلمي سلام حتي عام 1965 عندما نشر حوارا في اجتماع سري شمل جلستين عقدهما عبدالناصر مع القيادات الصحفية في مجلس الأمة وترك النشر لتقديرهم، وفي اليوم التالي وفي جلسة لم يحضرها سلام طلب عدم النشر إلا ما سيصرح به رئيس مجلس الأمة ووصلت التعليمات بعدم النشر إلي جميع الصحف إلا دار التحرير التي كان حلمي سلام يرأس مجلس إدارتها ورئيس تحرير لصحيفة الجمهورية وطبعا كان قد نشر بناء علي تقديره وجاءت رسالة عبدالناصر إليه: اقعد في البيت. عشرون عاما تجمد فيها الصحفي حلمي سلام حتي بعد الحصول علي حكم محكمة بالعودة إلي عمله في عصر السادات إلي أن رد إليه الرئيس الأسبق مبارك اعتباره بتعيينه كاتبا في آخر ساعة وعضوا بالمجلس الأعلي للصحافة. سلام علي سلاَّم وربما كان خير ختام لاستعراض هذا الكتاب ما دونه حلمي سلام في مقاله أسبوعيات في آخر ساعة في 22/4/1987 عندما سألوه إن من يقرأ دفاعك عن عبدالناصر دون أن يكون لديه علم بما أصابك علي يديه شخصيا في رزقك ومسيرتك يتصور أنك من هؤلاء الذين كانوا علي أيامه غارقين في النعيم حتي آذانهم. وكان رده: إنني لا أري في موقفي من عبدالناصر لغزا ولا شبه لغز إذ أن الأمر عندي وببساطة شديدة هو أنني تعودت أن أنظر إلي الرجل بكلتا عيني وأيضا من كل الزوايا وأصمم إنصافا لنفسي قبل أن يكون ذلك إنصافا له أو انحيازا أو انبهارا ألا أنظر إليه بعين واحدة ولا من زاوية واحدة.. أنظر بكلتا عيني ومن كل الزوايا، وكانت النتيجة أنني رأيت بعين أمجاده العظيمة في ذات الوقت الذي صارت لي فيه القدرة علي أن أري بعيني الثانية أخطاءه التي كانت عظيمة هي الأخري. هذا ما خطه الرجل في كتابه أو لنقل في ميزانه وهو ما يجعلنا نقول سلام علي سلاًّم يوليو.. بين دراويشه وحُساده اذا كان ما سبق ميزان حلمي سلاَّم صديق الضباط الأحرار، فماذا عن جيل الثورة الذي يقترب عمره من عمرها.. تقودنا صفحة د. حسن علي أستاذ الاعلام بجامعة السويس علي الفيس بوك إلي ما بدأ يكتبه في ذكري الثورة تحت عنوان معركة الوعي مستمرة نقتبس منها هذه الفقرات التي ضمتها صفحته أو ميزانه: هذه ساحة حوار عاقل... أقبل فيها بالاختلاف العاقل الذكي، ولا أقبل أن تتحول إلي ساحة لتصفية خلافات قديمة وصراعات انتهي زمانها وليس هذا أوانها. كيف تضيق صدور بعض حاملي الدكتوراه برأي مخالف ؟ كيف يسفه رأيا مغايرا دون دليل ؟ ثم يطالبك بالدليل ؟ ربما يضيق صدر محب لعبد الناصر حين تشير لبعض الانكسارات وربما يهش ويبش حين تعدد له الانتصارات... فلا ذكر الانكسارات ينال من رجل أنفق جل عمره في إسعاد الفقراء وتربع في قلوبهم ولايزالون يرفعون صوره كلما حزبهم أمر. انظر في يناير 2011 كيف ملأت صور ناصر ميدان التحرير. أيضا... ولا يغير الإسراف في ذكر الانتصارات شيئا من واقع بئيس بعد يونية 1967 وإلي يوم الناس هذا. دعونا نستنبط العبر والعظات ونتعلم من الأخطاء. دعونا نقل إن الرجل اجتهد فأصاب وأخطأ فهو بشر كسائر البشر. عبد الناصر ليس نبيا ولن يكون. دعونا نحذر من طريقة تفكير جلبت ويلات علي مصر. 23 يوليو.. ميلاد جديد.. قلت : لا تجعلوا من عبد الناصر صنما نعبده..، ولا شيطانا نرجمه.. لا يكن حبك كلفا..... ولا بغضك تلفا.. عبد الناصر... شهاب ومض في ليلة مظلمة.. ثم اختفي.. يراه محبوه.... فلتة زمانه...، ووحيد دهره...، أحيا الأمة بعد طول رقاد... يراه كارهوه..... شيطانا...، عربد واستبد... وضيع الأمة... عبد الناصر... بحاجة إلي أن نراه بميزان العدل.. ومضة في تاريخ حافل بالظلم والظلمات...، له نجاحات..، وله كبوات... قصة ناصر هي قصة جيش وطني.... كان في وضع المراقب... لأوجاع الوطن.. قصة الثورة... ثورة يوليو... لا يغيب عنها الجيش المصري الوطني..... لها جوانب مشرقة لا تنكر... ولها كوارث لا تغفر... رأيت عبد الناصر...! بعد تدريب بالكلية الحربية 6 شهور من أكتوبر 1980 إلي مارس 1981...، تم توزيعي ملازما مجندا علي المتحف الحربي بالقلعة وبقيت به حتي يناير 1982 ثم انتقلت قائدا بالإنابة لمتحف العلمين الحربي بعدها لمدة عام. كنت أبيت داخل متحف القلعة مع مكتبة ثمينة.. وشغف لا ينتهي... مكتبة فيها إجابة علي أسئلة كثيرة.... وتحوي أسرارا أكثر... أتيح لي بحكم عملي بالقطاع الثقافي بمتحف القلعة أن أظفر بالإشراف علي هذه المكتبة التي لا مثيل لها في المنطقة العربية... بها وثائق... ومستندات.... ثمينة جدا... بها كتب بعدة لغات منها العربية..، تري فيها تاريخ العسكرية المصرية الحقيقي، تاريخ جيش وطني بحق... دون دعاية أو تجميل..، دون برامج توك شو عبيطة... مما أطلعت عليه في هذه المكتبة الملف السري للضابط جمال عبد الناصر( الأصل ) وليس نسخة من الملف... رأيت فيه عبد الناصر الحقيقي، الضابط الطموح...، رأيت بوضوح وبخط يد جميل ما كتبه رؤساؤه..، دون نفاق فقد كان الرجل ضابطا صغيرا...، رأيت تقارير الرتب الأعلي عن أداء الرجل..، التقارير تقول أنت أمام ضابط.. يتمتع بسمات شخصية لفتت انتباه رؤسائه..، ويتمتع بقدرة علي القيادة والانضباط والعمل المتواصل... متعة أن تقرأ من تقارير أصلية من هو عبد الناصر.. التقارير جعلتني أري عبد الناصر بشكل أفضل وأتفهم دوافع كثير من قراراته... قصة ثورة يوليو.... لم تكتب بإنصاف بسبب دراويش عبد الناصر وكارهيه معا.