من كان يتصور ذلك الذي حدث للرئيس السابق حسني مبارك.. المصريون يحاكمون رئيسهم ويضعونه في قفص الاتهام؟. ومن كان يتصور هذا المصير للرئيس الذي حكم مصر ثلاثين عاما وهي اطول مدة لحاكم مصري في التاريخ الحديث، وبينما يرقد علي سريره مريضا عاجزا عن الحركة وفي الثمانين من العمر؟ من كان يتصور ذلك المشهد ولا حتي في العالم العربي؟. فقد تعودت شعوب المنطقة علي ان يرحل الرؤساء اما بالاغتيال واما بارادة الله، اما ان يتم خلع الحاكم بثورة شعبية وتتم محاكمته امام القضاء العادل ويواجه الاتهامات علنا عبر التليفزيون وينادي عليه رئيس محكمة الجنايات بصفته »المتهم« وليس باعتباره الرئيس السابق.. ومن كان يتصور ان تؤدي ثورة 52 يناير الي اسقاط النظام وتنحي مبارك ومثوله للمحاكمة في اول سابقة للقضاء في مصر، وحتي مبارك نفسه لم يكن يدور في خياله ان يجيء مثل هذا اليوم الذي يدخل فيه القفص الحديدي مع نجليه علاء وجمال، ولو انه عرف هذا المصير المؤلم منذ ثلاثين عاما لما قبل عرض السادات واختياره ليكون نائبا للرئيس.. فقد بدأ مبارك طريق الرئاسة بمأساة إغريقية عندما حدث اغتيال السادات بجواره وامام عينيه في المنصة، وكان يمكن ان يأخذ من ذلك العظة والعبرة ويكتفي بفترة رئاسية او بفترتين أو ثلاث ويريح نفسه من الاعباء الثقيلة والاخطاء الجسيمة.. ولكنه اثر ان يستمر في الحكم ثلاثين عاما بل قرر توريث ابنه جمال رغم ان مصر جمهورية منذ ثورة 32 يوليو.. ولم يكن يتصور ان ينتهي تاريخه في اول محاكمة علنية لرئيس مصري!. صورة مأساوية وليس لها سابقة في المنطقة العربية عدا محاكمة صدام حسين ولها ظروفها الخاصة قد تثير تعاطف البعض وقد تشفي غليل الاخرين من اهالي الضحايا »الشهداء« الذي سقطوا في الثورة الشعبية، ولم يكن امرا محتملا لحاكم قوي من الحكام العرب.. ولكن ما معني ما حدث في أول جلسة نزيهة وعادلة؟. 1 ان مصر دولة القانون ولاشيء يعلو عليه وكلمته هي الفصل حتي بالنسبة لرئيس الجمهورية. 2 ان العدالة تأخذ مجراها فوق الجميع وان الحكم الاخير لها ايا كان الاشخاص وايا كانت مواقعهم. 3 ان الشعب صاحب الحق في محاسبة الحاكم اذا اخطأ في حقه وتجاوز في سلطاته واستغل نفوذه وصلاحياته. 4 ان التاريخ يسجل لمصر بهذه المحاكمة النزيهة والناجزة سابقة في التاريخ العربي الذي شهد قسوة الحكام وتسلطهم.. واتوقف امام اصداء محاكمة مبارك في صحف العالم الغربي والعربي: صحيفة لوفيجارو الفرنسية اكدت ان محاكمة الرئيس المصري المخلوع تحمل قيمة رمزية في العالم العربي وعلي حد قولها: انه في العالم العربي حيث يبقي المستبدون للابد ويسلمون الحكم لابنائهم!. صحيفة الواشنطن بوست وصفت مشهد الرئيس السابق في جلسة المحاكمة وقالت انه بدا شاحب اللون ومريضا الا أنه كان واعيا بما يدور حوله واعتبرت ذلك اكبر اهانة لمبارك منذ تخلي عن الحكم الا ان ذلك يرضي الثوار المصريين!. صحيفة الرياض السعودية: وصفت المحاكمة بانها حضارية لانها استوفت شروط الادعاء والدفاع وحضور الشهود، وهي سابقة تعطي دلالة بأن القضاء المصري لايزال يملك استقلاليته ونزاهته!. صحيفة الجزيرة السعودية: قالت انه امام سلطان القضاء لايوجد استثناء وان المرض لايحول دون محاسبة متهم!. تلك كانت رؤية العالم لمحاكمة الرئيس السابق الذي أخطأ في حق نفسه مثل ما أخطأ في حق شعبه وسيكون الحكم للتاريخ..! ولكن من المسئول عن هذه النهاية المأساوية لرئيس مصري في قفص الاتهام؟. لاشك ان مبارك نفسه هو المسئول بعدما رفض التوريث في البداية ولكنه خضع لضغوط زوجته سوزان ثابت لكي يوافق علي توريث الحكم لابنهمها جمال وكان يقتدي بما حدث في سوريا وتوريث بشار خلفا لأبيه حافظ الاسد ولم يدرك ان الشعب المصري ليس قطيعا من العبيد الذين يسوقهم فرعون تحت قبضته، ولم يقدر صبر المصريين وتحملهم للظلم والطغيان، ولم يستمع الي صوت الشارع الذي يطالب بالعدالة الاجتماعية والحرية والخبز وعزل نفسه بنفسه!.. ولاشك ان حكومة احمد نظيف كانت بداية النهاية فقد شكلها جمال مبارك من الاصدقاء والمنتفعين من رجال الاعمال لكي تتولي مهمة التوريث في نظام جمهوري بعد انتهاء ولاية الرئيس الاب وكانت نموذجا للفساد والنهب.. وكانت لجنة السياسات في الحزب الوطني التي يرأسها جمال الابن هي التي تصدر التعليمات الي الحكومة وتصوغ القرارات.. وانتهي الامر الي التزوير الفاضح لانتخابات مجلس الشعب الاخير لكي يكون جواز المرور للتوريث.. والي هذا الحد بلغت الاستهانة بالشعب والتزييف لارادته وكان للصبر حدود وحدث الانفجار المكبوت وتعالت صيحات الملايين: ارحل.. ارحل.. ووقف الجيش الي جانب الشعب وحمي ظهره في ثورته.. وهكذا يشاء القدر عندما يصم الحكام آذانهم عن صوت الشعوب!. إننا شعب يتميز بالتسامح وعدم القسوة وعدم الشماتة ولا يضمر الكراهية والانتقام مهما بلغته القسوة وضغوط الظلم، ولكن في وقت ما يثور لكرامته ويغضب لاهانته. ولذلك كانت ثوراته بيضاء وسلمية وهو ما أثار احترام العالم لثورة 52 يناير وجعلها مصدر إلهام لشعوب المنطقة. وما يحسب للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، أنه أوفي بوعده للشعب بالنسبة لمحاكمة مبارك بشكل علني.. وذلك إعلاء للعدالة وسيادة القانون.