لا تمثل له المناصب غاية حياة ونهاية طريق رغم أنها أتته طائعة تجر أذيالها، فتولي المجلس الأعلي للثقافة في وقت صعب وبيئة راكدة فأحدث حراكا أدبيا في عدة أشهر، وهو الآن يتولي نيابة جامعة جنوب الوادي ولا يخفي علي المتابعين كيف جعل منها واحة معرفية في الجنوب تضارع كبري الجامعات المصرية، ومع كل هذا فإن الرجل مسكون بالشعر الذي يسعي من خلاله إلي تكوين عالم جمالي فريد يملك أدواته ليهزم واقعاً متخماً بالنظريات السوداوية.. إنه د.محمد أبوالفضل بدران، أستاذ الأدب العربي والشاعر الكبير، والذي لا يفتأ يروي حكايات طفولته الأولي مع شهر الصيام. ما أهم الذكريات العالقة بمخيلتك الشاعرة منذ طفولتك المبكرة عن شهر الصيام؟ - ذكرياتي عن رمضان تعود إلي طفولتي فرمضان في قريتي » العُويْضات » بمركز قفط محافظة قنا له طقوس مختلفة ،عندما كنا صغاراً لم تكن الكهرباء قد وصلت إلي قريتنا كانت بيوتنا شِبه مكيَّفة لأن الجدار قد يصل سُمكه إلي متر والأسقف عالية تصل إلي ثلاثة أمتار، مع »طاقة» أعلي الشبايبك المرتفعة للهواء والنور وللشكل الجمالي أيضًا، ما نفتقره في العمارة الحديثة اللمسة الجمالية، إراحة العين، فالعين تسمع وتحسّ وتري، تحوّلت العمارات بل الأبنية الرسمية إلي نموذج تكراري في كل المحافظات، وكأنه مفروض دون أن يراعي المصمم خصوصية المكان والبيئة والغرض، معظم أبنية الجامعات إلا القديم منها نموذج مكرر يخلو من الجمال إلا قليلا. يا أهل الله ! ساعات المساجد تكون دائما مكانا للهو الأطفال.. ماذا تذكر عن علاقتك بالمسجد؟ - قُبيل المغرب كان أطفال القرية يتجمعون دون اتفاق تحت مئذنة الجامع العتيق بالقرية، المئذنة قديمة عالية كلُّ البيوت حولها أقل ارتفاعاً منها وهذا ما جعل الناس في القري يُفضلون أن يكون المؤذن مكفوف البصر حتي لا يري من علِ بناتَ الناس، لكن الشيخ خليل كان يغمض عينيْه وكأنه أعمي بينما يطوف حول المئذنة في أثناء الأذان. لم يكن يخاف العقارب والأفاعي لأنه يرقي السموم في مهارة فائقة وهو يتلو قَسَم الإمام الرفاعي، ويُخرج السمَّ من جرح سطحي يخُطّه بمشرط صغير فوق موضع اللسعة، ويبرأ الملدوغ بعون الله، ويصيح الشيخ خليل » يا أهل الله». للشيخ خليل حكايات عديدة مع أهالي قرية »العويضات».. هل تذكرها لنا؟ - يأتي الشيخ خليل أبْ جلال، كان آنذاك قد تجاوز الستين لكنه نحيف نشيط، بجلبابه الأبيض وعمامته الخضراء التي تميزه عن سائر عمامات رجال قريتنا البيضاء، يدخل الشيخ إلي الوضوء بالماء الذي كان الشيخ حسين أبو سْعيد رحمه الله قد امتاحه من البئر بمفرده، وكان مكفوف البصر يملأ أحواض مياه المسجد ليلاً ونهاراً، ولا سيما قُبيل الفجر في البرد القارس، يدخل الشيخ خليل أبْ جلال ويتوضأ ونحن نرمقه متلهفين إلي صعوده سُلّم المئذنة ثم يلف العمامتين في تؤدة، ثم ينظر للسماء ويهمهم بأدعية ثم يخطو باتجاه المئذنة، كيف كان يتحسس طريقه في الظلام حتي يصعد (جوسق المئذنة) أعلي المئذنة ؟ كيف تساعده قدماه للصعود الرأسي دون تعب؟ كان يمضي حتي يظهر في الشرّافة الأولي لكنه يختفي برهة ليصعد إلي الشرافة الثانية، حبسنا أنفسنا في تلهّف متسائلين متي يُكَبِّر؟، كانت كلُّ القري والمزارع حول القرية تنتظر طلعته علي الشرّافة الثانية وصوته المعبّر الذي لا يشبهه صوت أحد، الجميع متلهّف لصوته الذي يبدو كأنه قادم من السماء يتهادي في مسامعنا.. حينما يقول الشيخ خليل » الله أكبر الله أكبر » نجري في سرعة خاطفة في شوارع القرية الضيّقة ليبلغ كلٌّ منا أهله المتجمعين علي الطَّبلية في انتظار صوت الشيخ خليل أو قدومنا مستبشرين » افطر يا صايم » كان التمر في انتظارنا، لا بد أن نبدأ بدعاء الإفطار »اللهم لك صُمت وعلي رزقك أفطرت، ذهبَ الظمأ وابتلَّت العروق وثبتَ الأجرُ إن شاء الله» نردده خلف أبي رحمه الله ثم نلتهم التمرات. البلح.. ألماني ! هل قضيت الصيام خارج مصر وما أشهر المواقف التي تعرضت لها؟ - أخذتُ البلح معي إلي ألمانيا ظنا أن ألمانيا لا نخيل بها وربما لا يبيعون التمر، اصطحبته معي، وسجلتُ صوت الشيخ خليل وأخذته معي ألمانيا لأفطر علي صوته، كان الطريق إلي جامعة بون حيث أدرس يمر بحديقة واسعة اسمها »هوف كارتن» وكان الطلبة إذا أشرقت الشمس- وهذا شيء نادر في ألمانيا - يتمشون في هذه الحديقة، كنت أسكن في شارع يسمي »لينيه اشتراسه» واشتراسه بالألماني أي »شارع لينيه» واكتشفت أن المستشرقة الألمانية الشهيرة أنماري شيمل التي كتبت 80 كتابًا حول عظمة الاسلام وسماحته تسكن في هذا الشارع بعد بيتين من البيت الذي أسكنه، وكان هذا مبعث سعادتي وكم كنت أفرح عندما نتصادف الذهاب معاً إلي الجامعة، وتتوقف كل برهة وهي تردد أقوال جلال الدين الرومي عن حدائق المعرفة وعن الزهور المتكلّمة والأشجار التي تمشي معنا، وكانت تتكلم عن الأبنية العتيقة في جامعة بون وكيف تمّ بناؤها وكانت المسافة بين بيتها والجامعة أقل من كيلومتر كنا نقطعه في نصف ساعة لأن حديثها مشرق وروحها خلابة جذابة، والأعجب أنها كانت عندما تكلمني تخاطبني »يا مولانا».. فأبتسم فتقول لي »أنت صاحب الخضر. فأنت مولانا...» الجميل في الأمر عندما عزَمتْني إلي بيتها قدّمت لي التمر في بيتها، وفي المرة الثانية أهديتها التمر الصعيدي، وأعجبتْ به كثيرا. حكايات الصعيد مع الموالد والمشايخ لا تنتهي.. ما حكاويك مع هذه الفئة؟ - ذات يوم فائت عدتُ من ألمانيا قبل رمضان بأسبوع لأجد المراجيح تغطي ساحات القرية وشوارعها، كان الجو أسطوريا وكأنه كرنفال في ساحات برلين... تساءلت عما حدث في غيابي؟ جاء الجواب »مُولد» الشيخ ثابت.. أعرف مقام الشيخ ثابت من الأولياء المشهود لهم بالتقوي، دُفِن في شرق العويضات بنجع أخذ اسمه منه تبركاً به، وإن كان هذا النجع يتبع قرية الظافرية لكن أهل قريتنا حسبوه واحداً منا، وهذا شأن القري المحيطة، فأولياء الله تعالي قسمة عادلة في الأراضي، كلُّ له دَرَك لا يبرحه وهكذا المقامات والأضرحة.. لكن قبل ذلك لم يفكر أحد في إقامة مولد له، وجاءت الإجابة إن رؤي كثيرة تواترت لدي أشخاص صالحين في ليال معدودات تؤكد أنه يطلب مولدا له.. وهنا قرر المرحوم أبو الحمد الشريف وكان من مُحبّي آل البيت والصالحين أن يعرض الأمر علي أهل البلدة الذين وافقوه علي إقامة المولد استحضاراً لِسير الصالحين، وشهرةً للقرية، وترويحاً عن أطفالها وإنعاشاً لتجارتها، وقد كان.. لكن نفراً من أهل القرية لم يَرُق لهم ذلك لأنهم رأوا فيه طوفاناً من الناس الغرباء ستجتاز شوارع القرية، وسيجلب الضوضاء في أسبوع كامل بميكروفونات لا تعرف الصمت، ولكن هؤلاء لم يستطيعوا الوقوف أمام الجمهور المتعطش للفرحة والاحتفال. الإمبواخية تتحدث دوما عن أكلة الامبواخية.. ما قصة هذه الأكلة؟ - لا أعرف من أين جاء هذا الاسم، لكن ما أعرفه أن هذه الأكلة من أجمل الأكلات التي ارتبطت في مخيّلتي عندما كنت صغيراً، هل ذلك لطقوس طبخها ؟ ربما... كان بيتنا يشعر بتحرّك جدتي وأمي رحمهما الله نحو عمل الإمبواخية التي تبدأ بعمل تطوافة أشبه بفرن بلدي صغير الدائرة، ثم »بُرمة» ( قِدِر من الفخار ) يوضع بعد ملء ثلاثة أرباعه بالماء فوق الجمر ويُغطي القِدر بقِدر أخري مُخَرّمة القاع وتوضع فيها قِطع الفطائر العجينية المقطّعة بالسكين علي الطبلية، تُرّصّ مع السمن البلدي وتسوّي بالبخار، كانت الطقوس المصاحبة للإمبواخية جزءاً منها كان الأمر يُسوّي علي مهل بُعيد العصر.. عندما يحين أذان المغرب نلتهم هذه الأكلة بالسكر والسمن البلدي وبعسل النحل، عندما كبرت بحثت عن الأمبواخية، كانت أخواتي يصنعنها من أجلي ويرسلن لي طبقاً كبيراً منها وكذلك صنعت حماتي، تطورت الأدوات وتغيرت الأسماء فصارت تُعَبَّأ في أكياس، وتُباع في السوبر ماركات، وأسموها »سِلاجة» هكذا يقولون عنها، وتَغَيَّرَ شكلُها وطَعمُها، وبقيت الإمبواخية القديمة مرتبطة في ذاكرتي بطقوس صُنْعِها، أخشي أن أتحدث كثيراً عنها حتي لا أري في رمضان القادم أكياس »الإمبواخية الصيني». ما الرسائل التي توجهها إلي الشباب في هذه الأيام الطيبة؟ - أفضل العبادات في رمضان وغيره حُسن المعاملة مع الناس ،لأن الناس تفصل أحيانا بين العبادة والمعاملة لكن الجوهر الحقيقي »الدين المعاملة» ومساعدة المحتاج وقضاء مصالح الناس.. وأقول للشباب ماقاله ابن الرومي : »ولتعَلمْ إنَ مَا أنتَ سَاعِ إليِه هو سَاعِ إليِك». أي أن النجاح الذي تسعي إليه هو يسعي إليك، واحفظوا حق بلدكم، ولا تقعوا في فخ اليأس فاليأس أعدي أعداء الإنسان، ولا توجد كلمة مستحيل في قاموس حياتي ألم يقل الرومي: تأمَن من كل شيء إذا أَمِنَ منك كلُّ شيء.