في ساحة المحكمة امس بدأت أولي الخطوات نحو وقف تدهور الدول وتحويلها إلي عزبة، علي امل استكمال بقية الخطي نحو استعادة تماسك الدولة وتجددها. من خلال دستور متكامل اهم ما ينبغي ان يكون فيه الحد من السلطات الخاصة برئيس الدولة المصرية، حتي لا يستمر مبارك اخري ثلاثين عاما في السلطة ثلاثة عقود من السلب والنهب الرئاسي المنظم، رأيت في محاكمة الامس يمكن القول ان تأسيس الدولة الحديثة بدأ بالفعل، وان فترة حالكة من تاريخنا قد انطوت بشرط استكمال الخطي. يوم امس كان حافلا بالمواقف التراجيدية. ما بين تاريخين ما اوسع المسافة الفاصلة بين لحظتين رأيت فيهما المتهم محمد حسني السيد مبارك. لحظة تنتمي إلي عام اربعة وسبعين، عندما وقف في ساحة مجلس الشعب بين قادة القوات المسلحة قادة حرب اكتوبر لنقله وسام نجمة الشرف العسكرية. أرفع وسام عسكري قبل انشاء نجمة سيناء .. مازلت اذكر هذه اللحظة بكل تفاصيلها. الفريق اول قائد الطيران، الضابط الذي عرف بانضباطه، في المقابل لحظة هبوط الطائرة في ساحة أكاديمية الشرطة، ونقله محمولا إلي قاعة المحكمة متهما بالقتل والسرقة. ما بين القوسين تكمن اسباب التغير والتبدل والتحول، انها السلطة المطلقة، الديمقراطية الهشة. كل المؤسسات كانت موجودة وغير موجودة، مجلس الشعب وشوري ورقابته ولا وجود لهذه المؤسسات. في ذاكرتي تدوي اصداء التصفيق المدوي في الاجتماعات المشتركة لمجلسي الشعب والشوري سرور إلي اليمين وصفوت إلي اليسار، لعشرين عاما لم يتغير المشهد، إصرار علي تثبيت المشهد، رفض تغيير والتمسك بشخصيات محددة، تم الانفصال عن الشعب وتجسد ظاهرة لعلها الاولي في تاريخ مصر احتقار الشعب، ان تدرج وتحول المتهم محمد حسني مبارك التدريجي من البساطة وسعة الصدر إلي التنعم بالثراء، والتمسك الشديد بالسلطة ثم الجرأة علي ما لم يصدر حتي عن الرئيس السادات أو يفكر فيه، اعني توريث الحكم الذي كان بداية النهاية. مسافة شاسعة توضح وتجسد إلي أي حد يمكن للانسان ان يتغير ويتحول ويفسد. علي السرير منذ الصباح الباكر رحت اتابع في انتظار اللحظة التي يظهر فيها الرئيس السابق المتهم. كنت اتطلع إلي رؤية ملامحه، وحتي لحظة ظهوره كان هناك جدل بين قطاع كبير من الناس. حول مجيئه ومثوله. بل وصل الامر في ذروة المحاكمة إلي اللامعقول عندما طلب محامي فحص الحمض النووي للمتهم الراقد علي سرير لانه يشك في هويته وان مبارك الحقيقي مات منذ زمن طويل. مبارك فوق السرير. وجهه قريب من الصورة التي غاب بها، شعره مصبوغ وملامحه ونظراته لا تدل علي الاعياء الشديد عمود المحاليل المرتبط بالسرير خال من اي زجاجة، وعندما حانت اللحظة الذروة ونادي القاضي عليه واجاب المتهم منكرا ما نسبته اليه النيابة من تهم بدا صوته قويا لا يعكس وهنا، في تقريري انه كان من الممكن ان يجلس علي كرس متحرك. لا اقول بقعادة قعدة عادية. ما الفرق بين السرير والكرسي المتحرك المزود بكل احتياجات المريض. اتصور انه تدبير مدبر لاظهاره علي حالة من الضعف والوهن لاستثارة تعاطف المصريين المتحضرين، الذين يرفضون القسوة ويرقون له رغم انه اصدر أوامره بقتل اكثر من الف انسان، مازلت اذكر قسوته وقسوة النظام في التعامل مع ضحايا العبارة الذين تجاوزوا الآلاف، الأمن المركزي تصدي بالقوة لاهالي الغرقي المكلومين الفقراء ، في نفس الوقت الذي ذهب فيه النجلان ثم الاب إلي المنتخب القومي للكرة تشجيعا منه ورعاية. لقد بدا علي غير ما تم التخطيط له، اي اظهاره في صورة الضحية المتقدم في العمر. لاحظت انه كان يتطلع إلي الساعة ماذا يعني الوقت بالنسبة للدكتاتور المتهم؟ إلي جواره وقف ابناه، الاكبر الذي تبدو ملامحه صارمة، جذب مكبر الصوت من امام فم والده ليحد من استرساله في الحديث، يمارس درجة من السيطرة عليه، الابن الاكبر الذي كان متواريا في الظل، يكدس الثروة من أعمال البيزنس. كل منهما يمسك بمصحف لو انهما طالعا التنزيل العزيز بحق لما وصلت الامور إلي هذه اللحظة. مبارك اكثر رئيس سابق رأيته عن قرب. زمن الحرب عندما عملت مراسلا حربيا، وخلال لقاءات معرض الكتاب كان يحيط به دائما حرس يتزايد مع مرور الوقت، حتي تصاعدت خلال السنوات الاخيرة إلي مستوي غير مسبوق، فعندما كان يتحرك يغلق المجال الجوي وتعطل الهواتف المحمول وينتشر قناصة الحرس الجمهوري، بالامس رحت اتأمل الحراسة المفروضة حوله حراسة ايضا ولكن من نوع مختلف. حراسة السجين. بعض رجال القوات الخاصة بالجيش تسليح متقدم وكفاءة بدنية عالية وشرطة ترتدي الملابس المدنية ورجال مصلحة السجون، حراسة وحراسة لكن شتان. في خلال الاستراحة ركزت الكاميرا علي سرير خال يحيطه افراد الحراسة فراش وردي لقد نزل من السرير ودخل إلي الغرفة المصنوعة بشكل مؤقت. الفقراء دائما جيش من المحامين، معظمهم يحمل درجة الدكتوراه وأوسمة علي الصدور، محامون علي مستوي عال من المهارة واتقان الألاعيب والنفاذ من الثغرات القانونية، اتعاب كل منهم بالملايين، انهم الاكثر ضجيجا ورساخة تحملهم القاضي العظيم برحابة صدر وهم يقدمون طلباتهم الغريبة دفاعا عن موكليهم المتهمين بالقتل. طلب المحامي الشهير جدا فريد الديب الاستماع إلي الف وستمائة شاهد كم من الوقت يقتضي ذلك؟ المدافعون عن المتهمين بالقتل والسرقة كبار جدا. علماء جدا اما المدافعون عن اهالي الشهداء فمعظمهم صغار مجهولون، لم ار محاميا واحدا من الذين يصدعون رؤوسنا في برامج التوك شو عن حقوق الانسان. أو الذين يتحدثون كثيرا عن المباديء. حتي المنتمين إلي التيار الديني غابوا عن الدفاع عن اهالي الشهداء انها فضيحة للمحامين الكبار الذين يملأون الدنيا ضجيجا. خطور ذلك ان المحامين المتمرسين الكبار القادرين يمكن ان يقدموا أوراقا تقلب الحقائق. والقاضي يحكم بها بين يديه، وقد رأينا امس عجائب منها اقتراح ذلك المحامي باعتبار التهمة الموجهة إلي المتهمين ضربا افضي إلي الموت. كيف يمكن لرصاص حي موجه إلي الرؤوس الادمية ان يعتبر ضربا افضي إلي الموت؟ مرة اخري أشعر بالاسي لان الكبار القادرين غابوا عن الوقوف امام المحكمة للدفاع عن الشهداء، عن اسرهم التي لم يوجد داخل القاعة منهم إلا أربعة فقط، إنني اعتب علي اسماء كبري منهم الدكتور علي الغتيت الذي سافر إلي فرنسا مرات علي نفقته ليدافع عن جارودي. وسامح عاشور النقيب الناصري، وغيرهما من قمم المهنة اسألهم، لماذا تركتم اهالي الشهداء وحيدين؟ تبقي تحية واجبة لهيئة المحكمة برئاسة المستشار احمد رفعت الذي قدم إلي العالم مثالا رائعا للقضاء المصري، بهرت بسعة صدره وحزمه في نفس الوقت، وتمكنه من علمه، لقد اعاد الينا الثقة في القضاء المصري وذكرنا بقضاة مصر العظام امثال عبدالرحمن فهمي وعبدالرزاق السنهوري. مما اتمناه ان نكمل ما بدأناه امس. تأسيس لدولة مصر الحديثة ترسيخ لمبادئ ثورة يناير العميقة والتي يجب ان تصاغ بوضوح قبل ان يدهسها السلفيون والمتطرفون والانتهازيون، علينا ان نقتلع النظام المملوكي تماما بعدإزالة رأسه.