القاهرة.. 1940، طفلة في الخامسة من عمرها.. السيمنا لأول مرة، سينما الشرق في السيدة زينب حيث اصطحبني أولاد عمتي الكبار الذين سبقونا إلي القاهرة لمشاهدة فيلم »ممنوع الحب» انظر بانبهار إلي الشاشة الفضية، عبدالوهاب يغني »بلاش تبوسني في عينيا» وحوله الجميلات، ثم فجأة يملأ الشاشة وجه غاية في الجمال وعيون سوداء ساحرة فأصيح قائلة: - مين البنت الحلوة دي؟! تلك أولي ذكرياتي عن الجميلة »مديحة يسري»، وتتوالي ذكرياتي معها »إني راحلة» رواية يوسف السباعي التي ابكتني وأنا مراهقة، تنتجها وتمثلها مديحة يسري فأبكي مرة أخري مع »عايدة» التي تجسدها في الفيلم. ثم تنتج وتمثل أول فيلم يناقش قضية النيل ويصور بالكامل في أسوان وهو فيلم »أرض الأحلام» الذي قامت بطبعه وتحميضه بالألوان في الخارج لعدم وجود المعامل المجهزة في مصر حيث أرادت إبراز جمال معالم أسوان للعالم. وتوالت السنون وعشت أمومتي في الستينيات مع أمومة مديحة يسري المتدفقة في »الخطايا». وبدأت »ظاهرة» مديحة يسري الفنية تلفت انتباهي، فهي أولا النجمة السينمائية، ثم المنتجة المتفانية للسينما حيث لم تكتف بإنتاج أفلام من بطولتها فقط ولكن انتجت أفلاما لفنانين آخرين آمنت بموهبتهم مثل فيلم »اعترافات زوج» لفؤاد المهندس وشويكار ومن إخراج الرائع فطين عبدالوهاب ثم فيلم »صغيرة علي الحب» للاستثنائية سعاد حسني من إخراج نيازي مصطفي. ثم تتوالي مفاجآت مديحة يسري المتعددة المواهب حيث تقوم بتصميم الديكور لفيلم »الرجل المناسب». ثم جاءت الصدمة التي زلزلت مديحة يسري وهي فقدان وحيدها البطل الرياضي عمرو محمد فوزي في حادث سيارة في سبعينيات القرن الماضي. عندها اقتربت إنسانيا من مديحة، وتعرفت علي جمالها الداخلي الذي يضاهي ويزيد عن جمالها الخارجي، وتوطدت علاقتنا حيث أصبحت مديحة أول من يهنئني في أفراحي وأول من أجده بجانبي في أوقات الحزن والألم. لقد كانت مديحة »صاحب واجب» مع جميع من عرفها حتي أن ممثلات الجيل التالي عليها أمثال نجلاء فتحي ونبيلة عبيد أطلقن عليها لقب »ماما مديحة» وهو لقب استحقته عن جدارة لحنوها ومساندتها لكل من عرفوها. ومن أطرف ذكرياتي مع مديحة، أن بناتي كن دائما يعلقن علي ازياء »طنط مديحة» - والتي كانت بالفعل رمزا للأناقة - حتي انهن كن يسألنني، حين يشاهدنها في افلامها القديمة »هي طنط مديحة ودت الفساتين الجميلة دي فين»؟ وقد حكيت لمديحة عن ذلك حتي أنها عندما سئلت عن أناقتها في الأفلام في أحد اللقاءات التليفزيونية ردت ضاحكة: »بنات ماما نعم عاوزين يعرفوا هدوم الأفلام دي راحت فين». لقد أصبحت مديحة يسري رمزا للسينما المصرية حتي أنه، في بداية الألفية، حين احتفل معهد العالم العربي بباريس بمئوية السينما المصرية، كان بورتريه مديحة يسري هو شعار المهرجان، وقد لفت ملصق صورتها الضخم علي مبني معهد العالم العربي أنظار الفرنسيين وتساءلوا عن تلك السمراء ذات الجمال العربي الأخاذ. لقد ظل عطاء مديحة يسري الفني ممتدا منذ 1940 حتي آخر أعمالها عام 2004 مسلسل »قلب يناديك». عاشت مديحة يسري حالة من الرضا الصوفي وكانت دائما ما تردد »أنا راح مني عريس.. زمانه مستنيني علي باب الجنة». في الجنة ونعيمها يامديحة.. هنيئا لك أخيرا لقياك مع وحيدك عمرو.. ولنا في فنك الجميل سلوانا.. وداعا سمراء النيل.