لست مع الغاضبين من جمعة "ابتلاع الصف" فمن حسناتها أنها جعلت المصريين يرون بأعينهم خطورة التيارات التي تريد استغلال الديمقراطية لتحويل الشعب إلي أسير يؤمر بحفر قبره بيده. حملت الجمعة الماضية رسميًا اسم "جمعة توحيد الصف" لكن الشعارات التي وصل بها الإسلاميون إلي الميدان والأعلام غير المصرية التي رفعوها أرادت أن أن تلقن شباب الثورة درسًا، من خلال الكشف عن عين الغولة الحمراء، لكن هذه اللعبة الخطرة باتت مفضوحة لأعداد أكبر من المصريين. وإذا كان المتطرفون الدينيون يستخدمون تعبير "فوق دستورية" لوصف المباديء الحاكمة للدستور التي يرفضونها بشراسة؛ فإننا يمكن أن نستعير التعبير نفسه لوصف ما يفعلونه بأنه عملية "تحت ديمقراطية". تكررت عبارة "ارتضاء لعبة الديمقراطية لتحكيم شرع الله من خلالها" طوال اليوم علي ألسنة من تحدثوا إلي الفضائيات المصرية والعربية من القياديين والتوابع في هذه الحركات. ومن الواضح أن القياديين يعرفون حجم المغالطة فيما يقولون، بينما كان الأتباع يرددون القول كالببغاوات. وتراهن هذه الجماعات علي قطاع من المصريين. هم يعرفون أن مقولة كهذه مكشوفة للمتعلمين جيدًا وللأميين الذين يشتركون مع النبي في صفة من صفاته وهي سلامة الفطرة، وأن أرضهم الخصبة تقع بين الجهلة الذين تلقوا تعليمًا فاسدًا أزال الأمية ونزع معها العقل والقدرة علي الحكم المنطقي علي الأشياء. وهذه الفئة سهلة الانقياد ليست قليلة؛ لأن الحكم الفاسد زرع اليأس وحصد هجرة الكثير من الشباب إلي الآخرة، وكان هذا طبيعيًا؛ فإذا فاتت الحياة الأولي فليس أمام الإنسان إلا أن يأمل في الثانية. وليست جماعات الهجرة إلي الآخرة إلا الوجه الآخر للحاكم صاحب السلطات المطلقة، حيث لا يفل المطلق إلا المطلق، وحيث الاحتكام ل "الإله الحقيقي" ردًا علي "الإله المزيف". هكذا كان الشيء السلفي لزوم الشيء الديكتاتور، وقد رأينا أن الإله المزيف يخطيء، كما أن الله لا يتجلي لبشر والادعاء بحكمه هو تحكيم لديكتاتور آخر من البشر. والثورة قامت لتوطين السلطة علي الأرض ووضعها في أيدي بشر متساوين ومتواضعين يخطئون ويصيبون ويعرفون أنهم يخطئون ويصيبون، ولذلك يقبلون بتداول السلطة ويرتضون وجود قيود علي تصرفاتهم أثناء الحكم ووجود حد أقصي لبقائهم في الحكم. وإذا كان لنا أن نقرأ النوايا في السياسة؛ فإن القبول بمن يريدون خطف السلطة إلي السماء، بل والدفع بهم، لا يكشف إلا عن نية لإعادة توطين المطلقات ودفن الديمقراطية ونفي البشر ومنعهم من التصرف في شئونهم. الفلول والقوي الخارجية المرعوبة من مولد الديمقراطية في مصر رأت أن تذبح هذا المولود لكنها لا تفصح عن نواياها. وتستخدم هؤلاء الملتحفين بالدين لتنفيذ الخطة، لكنهم والحق يقال أكثر صراحة واستقامة ممن يحركونهم؛ فهم يفصحون عن نواياهم بوضوح شديد. بحساب زمن البث في القنوات المتوازية التي سيطر علي الكلام فيها السلفيون يكون لدينا أكثر من خمسين ساعة كلام يوم الجمعة الماضي، لم تخرج كلها عن الفكرة البسيطة التي مؤداها: "نحن أغلبية ومع ذلك تواضعنا وارتضينا قواعد الديمقراطية لتحقيق شرع الله". وكنت أتمني أن أري مذيعًا واحدًا يسأل واحدًا من مئات السلفيين والوسطيين الذين تحدثوا عن "تحقيق حكم الله" كيف ستقبلون بانتخابات ديمقراطية تالية يمكن أن تنزع حكم الله، ما دمتم تحتكرون تمثيله؟ هذا عبث بالديمقراطية يستهدف تحويلها إلي منديل ورقي يستخدم لمرة واحدة. كلهم تحدثوا عن حكم الله، وبعضهم تحدث علنًا عن نسبة المسلمين ونسبة "النصاري"، وهذا التقسيم الديني كفيل بإخراج صاحبه من الساحة السياسية في أي بلد ديمقراطي. وإذا كانت الديمقراطية لعبة، فمن قال إن هناك مباراة رياضية أو شطرنج أو سيجة بلا قواعد؟ القاعدة الحاكمة للديمقراطية هي المساواة. تبدأ حرية الفرد حيث تنتهي حرية الآخر. ولا يمكن لحزب عنصري أو ديني أن يقوم في أية دولة عريقة في "لعبة الديمقراطية" لأن العنصري الذي لا يقبل بوجود عرق أو لون آخر يخل بقاعدة المشاركة؛ فما البال باستبعاد كل الشعب؟ كيف ستبقي لعبة الديمقراطية قائمة بعد تسليم السلطة لله؟! وليت العادل المطلق يتسلمها، لكن الله لن يتجلي لنا جهرة لكي نطلب منه تعليمًا أفضل أو مستشفيات أفضل أو شيكارة سماد بسعر معقول؛ فالسلطة ستكون في يد صاحب اللحية. ولأن الإنسان يتميز علي الخروف بالذاكرة تمكن من بناء حضارة، بينما لم تبت الخراف حضارة مستسلمة للذبح في الأعياد وفي غير الأعياد لأنها بلا ذاكرة. وذاكرة الإنسان تقول إن كل غاصبي الحكم في شرقنا وكذلك باباوات الكنائس وكل غاصبي الحكم في عصور الغرب المظلمة قتلوا وشردوا كل مخالفيهم باسم الله. والسماح بدخول لاعبين عنصريين ينفون بعض الشعب أو دينيين ينفون كل الشعب هو لعب بالمستقبل. وليس هناك من حل إلا بقصر حق الترشيح علي أحزاب فوق الأرض وسحب ترخيص أي حزب يقيم دعايته علي أساس طائفي أو ديني إذا كنا حقًا نريد الاحتكام إلي "لعبة الديمقراطية".