في أيام يناير في الفترة من 52 إلي 11 فبراير كانت صورة الزعيم الوحيد التي تم رفعها في ميدان التحرير هي صورة جمال عبد الناصر. ولم ترفع صورة أخري غيرها أو معها. وكانت سعادتي ودهشتي بلا حدود. لأن هؤلاء الشباب ولدوا جميعاً بعد رحيل عبد الناصر. ولم يعاصروا أيامه التي تسكن الآن صفحات التاريخ. وتتعرض لحملات شرسة ومخيفة من قوي الغرب والعدو الإسرائيلي والرجعية العربية وفلول وبقايا الإقطاعيين المصريين الذين ما زالوا يئنون ويتوجعون مما فعل عبد الناصر بهم. بل إن الكرامة الإنسانية التي كانت المطلب الثالث من مطالب ثوار يناير هي ترجمة لما جاء في برنامج الضباط الأحرار. والكلام عن العدالة الاجتماعية والحرية. كل هذه أمور موجودة في المبادئ الستة التي أعلنها الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر قبل ثورة يوليو. فما الذي جري بالضبط؟ رداً علي صور عبد الناصر المرفوعة في ميدان التحرير. خرج علينا عواجيز الفرح ليقولوا أن هذه الثورة ثورة ضد استبداد استمر في مصر ستين عاماً. أي أنهم يقصدون أن الثورة التي رفعت صور عبد الناصر كانت ضد استبداد عبد الناصر. وهو كلام غير منطقي وغير مقبول. ولا يمكن تصديقه. لكن لكل فرح عواجيزه ولكل حدث من يحاولون الخروج منه باستنتاجات قد لا يقصدها صناع الحدث أنفسهم. بل إن الأمور وصلت خلال أيام الثورة إلي تساؤل نشر في بعض الصحف أي التاريخين يصبح العيد الوطني لمصر الآن؟ الثالث والعشرين من يوليو وهو العيد الوطني القديم الذي تمت محاولة تغييره واستبداله بالسادس من أكتوبر في سبعينيات القرن الماضي وفشلت المهمة؟ ثم جاء من يقول الآن أن العيد الوطني المصري يجب أن يكون هو الخامس والعشرين من يناير من كل عام وليس الثالث والعشرين من يوليو. ليس في الأمر صراع ولا يحزنون. فثورات المصريين ابتداء من مصر القديمة وحتي اليوم هي حلقات متصلة كل حلقة تؤدي لما جاءت بعدها. ثورة القاهرة الأولي وثورة القاهرة الثانية ضد نابليون بونابرت أيام الحملة الفرنسية. وثورة عرابي وثورة 9191بقيادة سعد زغلول والانتفاضات التي وقعت في 6391 وانتفاضة 6491بينها وبين ثورة 2591. بل إن انتفاضة الخبز سنة 7791 وتمرد جنود الأمن المركزي سنة 6891والحركات الاحتجاجية المصرية التي اندلعت في مصر ابتداء من منتصف تسعينيات القرن الماضي. كل هذه حلقات متصلة منفصلة تؤكد قدرة المصري علي أن يثور وعلي أن يقول لا وعلي أن يعزل الحاكم الظالم ويضع نهاية لحكمه. رغم الصبر الذي سبق هذه الثورة وامتد لثلاثين عاماً. لكنها لم تكن سنوات من الهدوء والراحة والدعة. بل كانت سنوات من التمرد والثورة حيث تجمع فائض الغضب المصري في لحظة بعينها صباح الخامس والعشرين من يناير. وكل شاب ذهب إلي التحرير أو الميادين الأخري في عواصم محافظات مصر. كانت في روحه بذرة من هذه الثورات. ابتداء من ثورة الحكيم إيبور علي فراعنة مصر القدامي في مرحلة ما قبل التاريخ. وانتهاء بحركة كفاية التي أزالت الهيبة عن مؤسسة الرئاسة وعن شخص الرئيس ومكنت المصريين من التجرؤ علي الفرعون بجملتين فقط: لا للتمديد، لا للتوريث. وما زلت أذكر أن الوقفة الاحتجاجية أمام مكتب النائب العام وكل الواقفين يضعون علي أفواههم بلاستر ويرفعون هذه اللافتات قد زلزلت عرش الحاكم ووضعت الكلمة الأولي في نهايته وقادت المصريين جميعاً إلي مستقبل أجمل. وحركة 6 أبريل و9 مارس ومجموعة كلنا خالد سعيد وحركات العمال والفلاحين والمستضعفين في كل مكان من بر مصر. كل هذا تجمع وعبر عن نفسه في هذه الثورة الأخيرة. هذا جدل لن يستفيد منه سوي أعداء مصر الذين لا يريدون لمصر أن تفرح بثورتها ولا يرغبون لأهل مصر أن يتمكنوا من بناء بلدهم كما يريدون لأول مرة بعد ثلاثين عاماً من القهر والاستبداد والسرقة، وتهميش المواطن المصري، والجري وراء هذه الفرقة المفتعلة كلام يحزنني كثيراً. مع أنني أجد العذر لشباب التحرير. فقد ولدوا جميعاً في ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي. كانوا بعيدين عن جدل عبد الناصر والسادات. وعن بناء عبد الناصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي وعن محاولة السادات محو ما قام به عبد الناصر في السبعينيات التي جاءت بعدهما. أخشي ما أخشاه أن نجد أنفسنا فجأة أمام من يقارن بين دماء شهداء يناير ودماء شهداء أكتوبر. بالتفضيل لهذا والتقليل من ذاك. وبين من يقارن بين دماء شهداء 6591 و7691 وبين دماء شهداء يناير. مع أن الشهيد هو الشهيد. لا يستحق منا إلا أن نجله ونحترمه وأن نراعي أهله وأن نقف معهم ونؤازرهم ونمكنهم من مواجهة ظروف الحياة الصعبة. خصوصاً أهل الشهيد الذي كان يعولهم في حياته. ثم إن في مصر الآن ما يستحق الأولوية في الاهتمام قبل هذا الجدل الذي يعكس حالة من الترف لم نعد قادرين عليها. استغاثة: أقدمها للواء منصور عيسوي وزير الداخلية. واللواء حسن الرويني قائد المنطقة العسكرية المركزية. وقائد الشرطة العسكرية الذي قد لا يحضرني اسمه. لأن ما جري في مدينة نصر يومي الخميس والجمعة الماضيين لا يمكن السكوت عليه. والذي حدث أن مجموعة من البلطجية قامت بعمل خيام في منطقة تسمي المثلث. في مدخل عزبة الهجانة مما يشكل عدواناً صارخاً علي سكان المنطقة الذين توجهوا لقسم مدينة نصر أول. وهناك قيل لهم تصرفوا. فذهبوا إلي القوات المسلحة فاتجهت بعض عناصرها معهم وأزالت الخيام. لكن الخيام أعيدت في اليوم التالي. فاتجه المواطنون إلي قسم مدينة نصر يوم الجمعة وقطعوا طريق الأتوستراد ومنعوا المرور فيه. قد تقول لي أنه حادث عارض وقابل للتكرار وأقول لك إنها مقدمات للفوضي التي لن تبقي ولن تزر. ودور الدولة الوحيد الآن الذي يسبق أي دور آخر هو الأمان ثم الأمان ثم الأمان. نحن نعرف ما يجري في القاهرة لأننا نعيش فيها. أما خارج القاهرة فأكبر من أي كلام يمكن أن يقال.