وكأن مصر - بعد 52 يناير 1102 - دولة لا تاريخ لها ولا جذور، ولا أصول ولا فصول، ولا حضارة ولا هوية ، ولا مرجعية عرفية ومعرفية وأخلاقية وجمالية. وكأننا في مصر قبيلة في مهب ريح صحراء قاحلة جرداء، نعيش علي الكلأ والعشب الجاف، وتنظر الينا القبائل لتغير علينا.. كأننا لقطاء أو أيتام ، لا حول لنا ولا قوة إلا بالصراع والصراخ في الآبار القديمة، ولا أحد يسمع أحدا.. كأن مصر ليست دولة لا معني لها ولا مبني، ولاصيروة ولا سيرورة، منذ ملايين السنين.. أقول قولي هذا وأنا أتابع وأرقب ما يجري علي الساحة من عمليات تسويق لخطابات مغسولة بالمال السياسي، ومشبوهة بالتوجهات الأجنبية، وملثمة بأقنعة علي وجوه تتفتت من كثرة الإلتصاق، ويقينا ليس مراوغا.. سوف تأتي ساعة الفرز ولحظتها ستساقط الأقنعة لتبدو مثيرة للغثيان. عبث.. هذه الخطابات التي يسعي منظروها وفلاسفتها إلي التشويه والتشويش علي جوهر الشخصية المصرية، التي تتواصل أجيالها وتتسلسل عبر الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا. ما حدث في يناير كان لابد أن يحدث بشكل أو بآخر، وأيا كانت التسمية فهي حلقة في سلسلة حلقات الروح المصرية التي لا تعرف إلا التوهج، ولا تعترف بالإنطفاء، النظام الحاكم هو الذي كان آيلا للسقوط، وليس الدولة، وإن تعجب فعجب أن يزعم هؤلاء الفلاسفة الجدد الطارئون علينا نحن البسطاء، ليروجوا لمقولات علي طريقة »هب أنك دخلت جهن فصفها« وكل شيء إما أبيض وإما أسود، متجاهلين كل ألوان الكون والحياة، وأن الحقيقة مهما تجلت فهي نسبية. وإن تعجب فعجب أيضا أن نوظف كل شئ من أجل سراب، ونرهن سيرنا لما هو مؤقت، ولا نلتفت الي ما هو أخطر من المليارات والعقارات والماديات، بل ونولي وجوهنا شطر الحرية السياسية فقط وهي أضيق أنواع الحريات، مع أن التاريخ الإنساني كله هو دفاع عن الحريات، حريتي أنا وأنت، منذ شهر فبراير الماضي وكل أسبوع أو ثلاثة تظهر طائفة تشهر مسألة لتنفجر مع منظريها ثم تحتفي ويختفون: الاحتقان الطائفي المزعوم ، كمية الوثائق التوافقية، الأموال المنهوبة، الدستور أولا ، لعبة التشكيلات الحكومية، الدولة الدينية والمدنية، الشرطة والبوليس،و.. و.. وكأننا نلهو بألاعيب الحواة، وتفانين الصبايا والهواة. كلهم يتحدثون عن الشعب، وكأن الشعب المصري كائن خرافي، يتلاعبون به بالتحايل والاستخفاف والاستلطاف والالتفاف والاستظراف، وكل مجموعة لها كوادرها التي تخترق الوسائل الإعلامية بمهارة وخفة يد ولسان، وعلاقات شخصية، ومآرب أخري. نعم إن لهم فينا مآرب أخري، فلا أحد يعمل لوجه الله ولوجه الوطن ، الوطن الذي ينزف فرحة بالتحولات، مثلما ينز ألما من المآرب الدامية، لم يتفق اتجاهان حتي الآن علي شئ، الكل مختاف مع الكل، أتذكر في هذا السياق أن نشرت الأخبار عقب انتهاء مؤتمر الخرطوم عام 7691 الذي حضره كل الرؤ»اء القادة العربي لأول مرة في تاريخهم المعاصر بعد الهزيمة مباشرة، وكان »المانشيت« كلمة واحدة، فيها الفعل والفاعل والمفعول به:( اتفقوا...) لأن الاتفاق كان حدثا عظيما آنذاك، الآن يتغير المانشيت مسقطا علي ما يسمي بالقوي السياسية في مصر ليصبح: (اختلفوا...) أو (يختلفون...) وكم من الجرائم ترتكب باسمي وباسمك، باسم الشعب، لكن هذا الشعب بدأ ينتزع الأقنعة،لأن لا أحد يريد أن يشعل مصباحا للتنوير والاستنارة، لا أحد إلا وهو يتكالب علي السلطة، ولم يستوعب الدرس لأنه ذكي! الكل يقفز ولا يدري أنه يرقص في السلاسل.