الخميس: كتبت في نفس المكان الأسبوع الماضي أن شهر رمضان هذا العام سيكون مختلفا عن الأعوام الماضية، بل قد يكون (أهم رمضان) يمر علي أجيال عديدة من شبابنا ورجالنا ونسائنا، حيث سيكون هذا العام هو (أول رمضان) بعد الثورة المصرية العظيمة. لقد كان العام الماضي حافلا بالأحداث الكبري، والأوقات العصيبة، والضغوط النفسية، وآن الأوان أن نستمد من شهر رمضان طاقة روحية وزادا قلبيا وروحا جديدة تساعدنا علي استكمال مشوار نهضة بلدنا. حين شرع الله صوم رمضان ماذا كان يريد سبحانه من ذلك.. كان يعد أمة قادرة علي التغلب علي شهواتها وعاداتها.. قوية متماسكة ومترابطة، تصوم كلها في وقت واحد وتفطر في موعد واحد، وسأعطيك مثالا: أنا كنت في انجلترا وقابلت شاباً أسبانياً سألني: هل لديكم شهر تصومونه جميعاً؟ قلت له: نعم. قال: لا تأكلون ولا تشربون في وقت الصيام؟ قلت: نعم. قال: ولا اقتراب فيه بشهوة من النساء؟ قلت: نعم.. قال: هذا يحدث من الصباح حتي غروب الشمس؟ قلت: نعم. قال: كيف تكونون إذاً أمة متخلفة؟ لو عندنا قانون مثل هذا مفروض علي بلادنا لأصبحنا أقوي شعوب العالم. نحن أفسدنا مراد ربنا من شهر رمضان. نصوم حتي المغرب، لكننا بعد المغرب نأكل أضعاف ما نأكله في الأيام العادية. المسألة ليست الإحساس بالفقراء فقط، إنما المهم أن نثبت أننا أمة قوية تستطيع التغلب علي عاداتها وعلي شهواتها.. فالهدف من رمضان أن يعود الناس جميعاً إلي الله وأن يتغلبوا علي المادية الطاغية التي يعيشون فيها. وهناك ثلاثة أهداف محددة لرمضان؛ أولها كسر المادية بالعودة إلي الروحانية وقضاء الشهر في الإقبال علي الله، والثاني: التأكيد علي أننا أمة متماسكة بدليل أننا جميعاً نصوم في وقت واحد، ونفطر في وقت واحد وأن هذا شهر صلة الأرحام ووحدة الأمة، والإحساس بأن الأمة أسرة كبيرة، تفطر كلها في وقت واحد، وأخيرا التأكيد علي أننا أمة قوية أمام شهواتها. وعليه، فلدينا ثلاثة أنواع للصائمين وثلاثة أشكال للصوم: صيام البطن فقط، وكل علاقته برمضان أنه لا يأكل من الفجر حتي المغرب.. وصوم البطن والجوارح، هذا النوع لا يأخذ قرشا من حرام لأن يده صائمة، ولا يشتم أحداً لأن لسانه صائم ولا ينظر إلي منظر حرام لأن عينه صائمة.. وهكذا. وإذا كانت المعدة تصوم من الفجر حتي المغرب فإن الجوارح تصوم كل لحظة من رمضان.. وأرقي الأنواع هو صوم القلب.. فلا ينشغل إلا بالله تبارك وتعالي.. نعم أقابل أصدقائي ومعارفي، لكن قلبي متعلق ومشغول بالله تبارك وتعالي. وأنا أرجو من الناس ألا يصوموا الصيام الأول (صيام المعدة فقط)، إنما يصوموا علي الأقل الصيام الثاني (صيام الجوارح).. وهنيئاً لمن يقدر علي صيام القلب يوماً أو يومين أو العشرة الأواخر من رمضان. إذاً.. كيف نستقبل رمضان؟ الشيء الوحيد الذي كان رسول الله يدعو الله به لنفسه طول العمر حتي يبلغ رمضان.. فلم نسمع أنه دعا: يارب أطل عمري حتي ينتصر الإسلام، لكنه كان يدعو: "اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان". ومن فضائل الشهر الكريم أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.. معني ذلك أن أول عشرة أيام من رمضان تحمل رحمات من الله تنزل علينا.. والأيام العشرة التالية تتم فيها مغفرة ذنوب السنة الماضية.. والعشرة الأخيرة يتم فيها عتق رقاب من النار. ورمضان شهر تتضاعف فيه الحسنات. فالنافلة فيه بفريضة مما سواه.. أي أنك إذا صليت ركعتي سنة الظهر كأنك أخذت ثواب صلاة الظهر.. والفريضة بسبعين فريضة مما سواه ولو صليت الظهر فيه جماعة، والحسنة بعشر أمثالها، فإنها تساوي كنز من الحسنات. وقراءة القرآن بنفس المتوالية: جزء القرآن تقريباً يضم سبعة آلاف حرف، والنبي صلي الله عليه وسلم يقول: " من قرأ حرفاً في كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها".. إذا حرف القرآن بعشر حسنات، والجزء من القرآن الكريم فيه 7000 حرف* 10*70= 4 ملايين و900 ألف حسنة للجزء، ولو ضربنا هذا الناتج *30 جزءاً تكون حصيلة الحسنات عظيمة، من قراءة القرآن الكريم وحده حيث تصل إلي 147 مليون حسنة. والنبي صلي الله عليه وسلم يقول عن رمضان: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". لماذا اختار الله تعالي أن يحدثنا بلغة الأرقام في هذا المقام؟ الله سبحانه وتعالي حدثنا بكل اللغات والطرق.. استخدام الأرقام لأن الشهر تحفيزي لأعلي درجات التحفيز. ولغة الأرقام من أهم وسائل التحفيز والتأثير علي النفس البشرية ولك أن تتخيل أنه مع أول يوم في رمضان تغلق أبواب النار، لأن هذا موسم دخول الجنة, والشياطين في هذا الشهر تسلسل ويغلق عليها.. ولكن الناس يرتكبون الأخطاء في رمضان، فهذا من صنع النفس البشرية وليس من صنع الشيطان. إنها النفس الأمارة بالسوء. هناك فضل آخر في رمضان يجسده هذا الحديث النبوي: (ولله عتقاء من النار كل ليلة في رمضان). فإذا كانت آخر ليلة من رمضان أعتق الله سبحانه وتعالي بمقدار ما أعتق في الشهر كله). والله أكرم من أن يعتق عبدا ثم يعيده إلي النار. الرقبة التي تعتق تحرم علي النار. كذلك ففي رمضان ليلة خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر. وألف شهر بحساب الأرض تساوي 84 سنة تقريبا، أي أن هذه الليلة تساوي عمرك كله. والحسنات في هذه الليلة تساوي عمرك كله لو كانت حسنات. ولو صليت ركعتين في هذه الليلة، كأنك وضعت في ميزان حسناتك 84 سنة من الصلاة. هناك حديث آخر يتحدث عن العتق من النار: من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء. وأريد أن نوصل للأبناء أن الصلاة أهم من الصوم, والصيام في السن المبكر للأطفال يمثل فرحة فالأطفال يفرحون حين يشاركون الكبار هذا العمل العظيم. ونحن نشاركهم هذا الشعور ونريد تنميته، لكننا نريد الاستفادة بهذا الشعور لدي الأطفال بفرحة الصوم بأن نشترط عليهم أن يكون الصيام هو يوم صلاة أيضاً، فإذا صام الأطفال حتي الواحدة بعد الظهر، فلابد أن يكملوا اليوم صلاة. وعندي رسالة أخري للمرأة، فالسيدات يقضين نهار رمضان في المطبخ. وعند الإفطار يضعن علي المائدة 60 صنفا. وحين تقوم المرأة للصلاة تشعر بالتعب الشديد. وأنا أقول للمرأة: أرجوك.. قللي من الاهتمام بالمظاهر من أجل التركيز علي العبادة، ومساعدة ضيوفك علي أن يعرفوا كيف يعبدون الله بعد الإفطار، لا تساعديهم علي إفساد هدف الصيام. كذلك أحذر المرأة من وقوفها في المطبخ طوال النهار دون أن تأخذ في النهاية ثواباً. فمن فطر صائماً كان له مثل أجر الصائم، وكان عتقاً لرقبته من النار. ورب البيت الذي أنفق علي العزومة وفطر الصائمين سيأخذ ثواباً علي ذلك. وليت المرأة تبحث عن فقير كل يوم لتفطره. وليس شرطاً أن يجلس الفقير إلي مائدة الأسرة لكي يفطر. إنما يكفي إرسال الطعام إليه. والحديث علي مائدة الإفطار يجب أن يذكرنا بقيمة رمضان. أو نشاهد برنامج دينياً. أو نصلي المغرب جماعة رجالاً وسيدات، وبعد الإفطار ننزل لنصلي التراويح في الجامع. ثم نعود إلي البيت لنكمل السهرة العائلية. يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رمضان فرص عظيمة للاستجابة للدعاء فللصائم دعوة مستجابة عند فطره. وكل إنسان يستطيع في كل وقت أن يدعو الله ما شاء له من الدعاء لحل مشاكله والإكثار من رزقه. والدعاء في قيام الليل (التراويح أيضاً) مستجاب وليلة القدر مستجابة الدعاء. وأنا أنصح الناس بدخول رمضان وقد جهزوا أدعية محددة. وأنا أدعو الله بإحساسي الطبيعي وباللغة العامية أن أدخل الجنة وأن يحقق الله أحلامي .. إلخ. أما بالنسبة للشباب، أريد أن أقول لهم أن رمضان يقوي شيئاً في الإنسان اسمه (إرادة الامتناع). وعلماء النفس يقولون إن نوعين من الإرادة يجب تربيتهما في الإنسان: إرادة إقدام وإرادة امتناع. إرادة إقدام كالشجاعة والمواجهة، وهذه تبني عليها في الإسلام أشياء أخري كالصلاة والحج والجهاد. لكن إرادة الامتناع هي إرادة لا يجيدها الكثيرون، تستطيع عمل فرامل لشهواتك واحتياجاتك حتي ولو كانت حلالاً كالطعام والشراب والزوجات. والله سبحانه بهذا يريد أن يدرب إرادة الامتناع لدي عباده. وكل يوم عند السحور يمتنع الإنسان عن احتياجاته وشهواته. وعند الإفطار يصرح له بما هو حلال. ثم يتكرر ذلك مدة 30 يوماً لكي يتدرب الإنسان علي إرادة الامتناع. إرادة الامتناع كثير من شبابنا لا يعرفونها، ورمضان يربي هذه الإرادة تربية شديدة. نحن أفسدنا مراد ربنا لصوم رمضان بطريقتين: فريق يتصور أن صوم رمضان يتطلب التفرغ للعبادة، وبالتالي الفشل في العمل. وفريق يتصور أن رمضان فرصة للتفرغ للشهوات ومشاهدة الفضائيات.. والفريقان مرفوضان. والطريقتان إفساد لمراد ربنا من رمضان، بدليل أن الغزوات الفاصلة كانت تتم في رمضان فكيف أتيح للصحابة ممارسة هذا الجهاد وهم صائمون؟ إذاً نحن الذين نفهم رمضان بطريقة خاطئة، ونحن الذين نتكاسل، ولا نريد أن نحقق التوازن بين النجاح في الحياة وبين عبادة الله.