أين ذهب الفلاح الذي كان موسيقار الأجيال يحسده علي »عيشته« ويقول محلاها عيشة الفلاح؟.. أين القرية التي خرجت منها كوكب الشرق أم كلثوم؟.. أين القرية في أعماق الصعيد ووجه بحري التي خرج منها الزعماء والأدباء والشعراء؟ أين الأرض الزراعية التي كان العظماء.. أهم محاصيلها؟ لم تكن الأرض الزراعية تخرج لنا القمح والعدس والفول والبرسيم فقط.. وإنما كانت تخرج لنا العظماء أيضاً.. ومعهم الأخلاق والشهامة.. والأمانة.. والوطنية.. والحياء والخجل.. واستخراج القوت بعرق الجبين. أين اختفي كل ذلك.. وأين القرية.. وأين الفلاح.. وأين أخلاق القرية؟ الفلاح المصري لم يعد له وجود إلا في النص المقدس الذي يحدد نسبة 05٪ للفلاحين في مجالسنا النيابية.. التي يشغلها في الواقع حضرات السادة الضباط.. الذين خرجوا من الخدمة للدفاع عن الأراضي التي استولوا عليها.. والقتال من أجل العمولات.. والاستشهاد تحت أقدام صفوت الشريف وفتحي سرور. الفلاح المصري يعمل في دول الخليج.. تحت حماية »كفيل« يحييه ويميته.. الفلاح المصري يستشهد في العراق ويفقد الفدادين الخمسة والجاموسة التي وعده بها صدام حسين.. في إطار علاقة الخسة التي كانت تربطه بحسني مبارك. الفلاح المصري يستشهد في مياه البحر المتوسط أثناء هروبه للبحث عن عمل في إيطاليا. الفلاح المصري يعمل حارساً للعقار في مساكن شيراتون.. لا يقرأ.. ولا يكتب.. ويمسح السلالم.. وزوجته تغسل الصحون.. ويقف بالساعات الطويلة في تشريفة استقبال ياسر عرفات لحل قضية فلسطين! حدث ذلك في 03 سنة.. وبات الفلاح المصري.. هو الشهيد في كل موقع. الشهيد رقم واحد في حوادث القطارات.. وفي غرق العبارات.. وفي سقوط الأتوبيسات من فوق الكباري.. وفي الاشتباكات التي تقع بين الفلسطينيين في رفح.. وبين السودانيين في دارفور. هذه هي عيشة الفلاح بعد 03 سنة من حكم مبارك. لماذا حدث ذلك؟ حدث ذلك لأن حكامنا ضعاف الإدراك.. ومعهم الصبية من حملة الدفوف والمزاهر.. تصوروا أن الأرض الزراعية لها وظيفة محددة.. هي إنتاج القمح والفول والعدس والبرسيم.. والتي نربي فوقها المواشي التي توفر لهم اللحوم التي يلتهمونها مشوية ومسلوقة ومحمرة ومعها الرقاق الذي ينقعونه في مرق الدجاج. هكذا تصور حكامنا.. ضعاف الإدراك.. ولم يخطر ببالهم حال »الفلاح« الذي يعيش فوق هذه الأرض.. ويشكل المخزون الثقافي والأخلاقي لهذه الأمة العظيمة. كل ما يهمهم.. كان ما تأتي به الأرض من برسيم.. ولم يخطر ببالهم أحوال الإنسان الذي يأتيهم بهذا »العلف«. أحوال الفلاح المصري.. باتت مسئولية كبار الضباط ورجال الأمن الذين شغلوا مواقع المحافظين.. فإذا استتب الأمن وجرت عمليات كبت جماح الغضب.. جرت تنقلات المحافظين بين المحافظات المختلفة.. تنقل الذباب علي الأكواب. وتحولت العلاقة بين القيادة السياسية.. ضعيفة الإدراك وبين الفلاحين.. لعلاقة بفلاح واحد.. يجلس في غرفة فاخرة علي شاطئ النيل ويستقبل الرئيس أثناء جولاته في بلاد الفلاحين.. وتقدم له زوجته الشاي.. وتظهر صوره في جميع وسائل الإعلام التي لا يثق فيها سوي ضحايا عصابات توليد الدولارات. هذا الرجل الذي يستقبل الرئيس.. هو فلاح سابق وهو الآن أحد مخبري أمن الدولة.. أما التي تلعب دور الزوجة.. فهي إحدي موظفات ماسبيرو! وبالتالي فلم يخطر ببال أحد من حكامنا.. الدور الاجتماعي للأرض الزراعية.. وكونه مصدر القيم والأخلاق. الأرض الزراعية.. ليست لإنتاج المحاصيل الزراعية فحسب.. وإنما الأهم هو دورهاه الحضاري في المحافظة علي الأخلاق والقيم النبيلة التي تنتقل من جيل لجيل.. من خلال الثقافة التي تفرضها الأرض علي الواقع. الفلاح هو عماد الأمم الراقية.. ليس لأنه يزرع ويحصد، ولكن لأنه فلاح. لم يخطر ببال حكامنا أن الفلاح هو عماد الثروة البشرية في أي مكان في العالم.. في الصين.. في روسيا، في أمريكا.. الخ. وأن الأمم الراقية.. تبذل كل الجهد.. وتضع الخطط السياسية والاجتماعية التي تضمن لها المحافظة علي ثروتها من الفلاحين.. باعتبارها ثروة لا تعوض.. وكل فلاح نفقده اليوم.. لن نستطيع تعويضه أبد الدهر. لم نضع البدائل للتوسع السكاني الذي أحدث التداخل بين القرية والمدينة.. وحول أغلب قري مصر إلي مناطق عشوائية.. تستهلك ولا تنتج.. وتعتمد علي رغيف الطابونة.. والطماطم المستوردة من سوريا. ضحكنا علي عقول الفلاحين باحتفاظنا بنسبة 05٪ عمال وفلاحين.. وتجاهلنا.. كل ما يتعلق بالإبقاء علي الفلاح نفسه.. وبحياته.. وتقديم الدعم له كي يستمر في قريته.. ولا يغادرها إلي القاهرة.. للبحث عن عمل. في نصف سبعينيات القرن الماضي.. كان جوزيف إرتل يشغل منصب وزير الزراعة في ألمانيا.. والتقينا علي عشاء بمنزل سفير قطر في بون السيد محمد علي الأنصاري.. وسألته عن الدعم الذي تقدمه الحكومة الألمانية للمحاصيل الزراعية فأجاب الرجل: نحن لا ندعم المحاصيل.. نحن ندعم الفلاحين.. لأن عدد الفلاحين الألمان يقل من سنة لأخري.. ويقع عدد كبير من أبناء الفلاحين تحت إغراء العمل في الصناعة.. الأمر الذي يهدد ثروتنا من الفلاحين.. وعلينا التصدي لهذا الاتجاه. ومضي الرجل يقول: إن خطتنا تعتمد علي تشجيع الفلاح بأن يبقي فلاحاً.. ويعيش علي النمط الثقافي.. التقليدي.. التراثي الذي ورثه عن الآباء والأجداد.. ويحافظ علي تراث الأمة الألمانية.. ورعاية الرقعة الخضراء. وقال لي الوزير إرتل ليلتها: إن كل فلاح نفقده.. من المستحيل تعويضه.. لأن كل فلاح هو ثروة اجتماعية تراكمت عبر آلاف السنين. عدت أسأل: وهل هذه هي مسئولية وزارة الزراعة؟! أجاب: إنها مسئولية الحكومة.. وكل وزارة تتولي الجانب الذي يتعلق باختصاصها.. مثل وزارة البيئة.. ووزارة الثقافة.. ووزارة الصناعة.. والجامعات. ومضي إرتل يقول: إن القضية لا تتعلق بالفلاح فقط.. ولكن بأسلوب حياته.. وبالزي الذي يعد من الفولكلور الشعبي، ويتعين المحافظة عليه لأنه جزء من تراثنا. تذكرت هذا الحوار.. بكل تفاصيله.. وأنا أتأمل ما جري للفلاح المصري طوال الثلاثين سنة الماضية.. وتعرض هذا القطاع البشري الرائع للانقراض علي أيدي مجموعة من الأفاقين واللصوص الذين نهبوا الأراضي الزراعية وجرفوها وأقاموا المنتجعات.. ورفعوا شعار »الأرض لمن يسرقها« بعد أن أطاحوا بالشعار السابق الذي رفعه جمال عبدالناصر »الأرض لمن يزرعها«. أتذكر أيام عبدالناصر.. وعيد الفلاحين.. وأمانة الفلاحين بالاتحاد الاشتراكي.. وتوزيع الأراضي علي الفلاحين.. الخ. ثم انتقل إلي حسني مبارك.. الذي كان يعتبر كلمة فلاح »شتيمة« وإهانة.. وأذكر ما حدث في أول زيارة يقوم بها لمؤسسة »أخبار اليوم« بعد توليه منصب رئيس الجمهورية لافتتاح المبني الجديد أيام الراحل العظيم موسي صبري، عندما اجتمع بالنخبة من كبار نجوم أخبار اليوم. يومها وقف أحد أهم رموز الصحافة المصرية.. ومؤسس صحافة ثورة يوليو يسأل عن أوضاع الفلاحين وأنه يتعين تحسين ظروف الفلاحين وبدأ كلمته التي وجهها لحسني مبارك بجملة: سيادتك فلاح.. وعارف.. ان.. وإذا بحسني مبارك ينتفض من فوق كرسيه مقاطعاً ومستنكراً: بتقول أنا فلاح؟!.. أمال انت تبقي إيه؟ أجاب الصحفي الكبير: كلنا فلاحين. ثم استمر في شرح الأوضاع الخاصة بالشريحة الهائلة من أبناء مصر. هذه الملاحظة العفوية التي صدرت عن حسني مبارك دون أن يتبين مغزاها.. كشفت منذ الشهور الأولي لتوليه السلطة عن ضعف إدراكه من ناحية.. وعن مكانة الفلاحين في أعماق.. أعماقه.. من ناحية أخري. الفلاح المصري في خطر.. والقضية التي نواجهها ليست قضية تصحر الأراضي الزراعية.. وإنما هي قضية التصحر العام. تصحر الفكر.. وتصحر الأخلاق.. وتصحر حناجر المطربين.. وتصحر آذان المستمعين. نحن نواجه ظاهرة التصحر.. في كل موقع.. ولذلك فلم يعد من العدل أن تقدم لنا إذاعة الأغاني صوت عبدالوهاب وهو يردد »محلاها عيشة الفلاح« أو صوت فايزة أحمد وهي تهمس لأمها بأغنية »غزلا له.. يا امه بإيدي الطاقية«! مطلوب قانون لحماية الفلاحين من الانقراض!