الأربعاء: »أواه لوعرف الشباب، وآه لو قدر المشيب« حكمة إنسانية محملة بالرجاء لكي تتواصل الأجيال، بلا صراع ولا صداع ولا صراخ، بل بالتواصل والتكامل والتفاعل، حلقات بعضها يفضي إلي بعض، حتي يتسني لقطار الحياة ان يستمر، وأن يتوقف في كل محطة بعضا من الوقت، والحياة محطات والأجيال أيضا، فلكل جيل رسالة تنتظمها رؤية، وان تمايزت في التفاصيل ولابد أن تتمايز. نحن في حاجة الي الشباب الذي يقدر ويحتاج إلي أن يعرف، ونحن في احتياج إلي (المشيب) الذين (يقدر) بعد أن عرف، ولم يعد يعلم من بعد علم شيئا، وفي المسافة المتحركة بين (القدرة) و(المعرفة) تتوالد الطاقات، وتُستشعر تجليات منظومة القيم التي تنتظم حركة المجتمع، والتي في غيابها يصبح كل شئ مباحا، لكنه يمتنع في ضياء »الثنائية« و»تلازم الزوجية« كقانون من قوانين الحياة، وضمن قانون التطور، وقانون »التجاذب للتنافر والتنافر للتجاذب« فالأشياء لا تعمل بمعزل عن بعضها . لا أريد استنساخ من قبلي ومن حولي، ولا أريد ان أخلف أحدا، ولا يخلفني أحد، كل له بصمته، وكل له خصوصيته، وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه، فلماذا نريد أن نتشابه، وأن تتطابق وجهات النظر؟ الشباب فائر مندفع ولا بد أن يندفع ويفور ويثور، هذا طبعه وبرنامجه المودع فيه، والكبار يريدون أن يظلوا أوصياء بدون مبررات، ولا يكتفون بالنصيحة التي هي دائما ثقيلة، ويفرضون جبروتهم علي الشباب بممارستهم »مرض الآبائية« الذي هو أخطر من السرطان، لكن اكثرهم لا يعلمون، وهذه هي الإشكالية . ميم صاد راء. والعنفوان ذي الكبرياء الخميس: في 25 يناير من عام 0102 عدت الي مصر بعد اغتراب 62 عاما ، وكنت قد غادرتها الي مسقط ضمن 51 صحفيا من »دار أخبار اليوم« في بداية عقد الثمانينيات، حيث لم يكن السفر آنذاك متاحا إلا الي السودان وسلطنة عمان نظرا لمواقف الدولتين السياسية من مصر في أجواء »كامب ديفيد« .. وفي التسعينات بدأ بعضنا في العودة ليحتلوا مواقع قيادية في العمل الصحفية بعد طول معاناة مثل: فتحي سند ، عبد القادر محمد علي، محمد الهواري، ممتاز القط ، مؤمن خليفة، محمد درويش، عصام حشيش،فوزي مخيمر، مجدي كامل، السيد مصطفي، مجدي نجيب ، رضا محمود ، محيي عبد الغفار، كرم سنارة، محمد عبد المقصود، كلهم خدموا »مصر« إعلاميا كل في موقعه، كنا كتيبة صحفية شرسة ومتصوفة في حب »مصر«، عادوا ومكثت أنا مرصعا جبيني بتاج العلاء في مفرق الشرق، ومتوجا تكويني باسم »أخبار اليوم« ما بين مسقط والكويت والرياض ودبي. ورجعت بتاريخ 25 يناير 2010 لأبذل جهدا مضنيا في البحث عن مصر، التي غادرتها عام 4891 وكانت بخير إلا قليلا، طال بحثي في الزمان والمكان والإنسان، ركضت هنا وهناك في قاع المدينة وفي عمق الريف، وبين أهل القاعدة وأهل القمة، فلم أعثر إلا عن بقايا من أخلاق، وبقايا من عزائم، إحباط ، لا مبالاة، جمود ، برود ، سكون ، تكلس، الناس يتحركون في الشارع بالغريزة فقط، كائنات بشرية تتململ لكن تحت أحجار مسنونة، الطموح أين؟ كل هذه القيود؟! كل هذه الأسوار؟! إجابات تبحث عن أسئلة، وأسئلة مبعثرة، أين مصر، أين»ميم،صاد، راء« ماهذه الأشتات، أين الناس، أين العنفوان ، أين العنوان، أين العيون التي في طرفها شوق للحياة، أين الأدمغة التي علمت العالم ، أين السواعد الفتية، أين السمر الشداد؟ ألف أين ، وألف كيف، وألف لماذا.؟ لا.. ليست هذه مصر التي عدت إليها ملهوفا مدثرا بأدواتي المعرفية وقناعاتي العرفية و مرجعياتي الأخلاقية والجمالية .. قال لي أحد الثوريين فكرا وعلما»احذر أن تكون طموحا ، وضع عقلك في »الفريزر« اجهض عقلك بنفسك، وكن من الشاكرين«.قال لي أحد الفنانين المثقفين وسليل عائلة سياسية عريقة:»مصر قفلت، ترجع فين«. قال لي الكاتب الكبير أثناء زيارته لمسقط» البلد ما فيهاش قانون. مصر اتباعت، خليك مكانك«. قال لي الأستاذ الجامعي صاحب المشعل التنويري:» حب مصر من بعيد، إيه المشكلة لكن ترجع لا«. قال لي ركن عتيد في النظام السابق اذا كنت قلت من قبل ان الفساد للركب فهو الآن من ساسك لراسك« ، قالوا .. وقالوا .. كل ما يجعل الرأس يشتعل شيْبا، والقلب منفطر والعقل يخر هدا، فكل ما قالوه كان شيئا »إدا«. سجنت نفسي في نفسي، وهربت من جَلدي في جِلدي، ضربت بكل ما سمعت وشاهدت ورأيت وقرأت عرض الحائط، نسفت ما بثوه من الانهزامية والاستسلامية، في وجهي وطموحي، وعلمي وعملي وتشبثت بكلمةالأمل »ألف.ميم.لام« والهاتف الداخلي يئن»ميم.صاد.راء« أليس في هذه الأمة قلبها النابض، وعقلها المفكر، وخيالها الذي حقق المعجزات، وتحركت بين المدن الالكترونية والعوالم الافتراضية، واسائل : أين المثقفون وطلائع الأمة، أين المفكرون وأساتذة الجامعات والكتاب والفنون والشعراء ، ومراكز البحوث والدراسات وحملة الدكتوراهات وأصحاب الأقلام التنويرية، وأين محمد حسنين هيكل وأنيس منصور، وفاروق الباز وأحمد زويل وعشرات من أمثالهم، و أين تأثير مؤلفات عمالقة الفكر المصري والثقافة المصرية والتاريخ المصري، إين تجليات أرواح أحمد عرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، والطهطاوي ومحمد عبده وثوار الأزهر، وجمال حمدان، و..و.. والألوف من أمثالهم، و أين الأجيال الجديدة والمتلاحقة. أين جيل الانترنت، ما أثر كل هذه العطاءات التكنولوجية علي حياتنا وسلوكياتنا وطرائق عيشنا؟. كنت أقول لكل من أجالسهم وأحادثهم، وهم الآن شهود أحياء، لابد من زلزال يقلب الأمور رأسا علي عقب، لا توجد ثورة »نص نص« إما أبيض أو أسود« وكان يسخرون مني، وينظرون اليّ شذرا، وكأنني قادم من كوكب آخر، أو كأنني واحد من أهل الكهف ، حتي زوجتي التي سبقتني في العودة مع الأولاد بأربع سنوات، كانت تزم شفتيها وتغلق عينيها، وتبتسم ابتسامة مرة ومريرة، والأبناء بقاموسهم الجديد ومفردات الروشنة»إنت في مصر يابا« بعد أن ذاقوا الأمرين بدخلوهم في »السيستم المصري«. يا إلهي.. إذا كف القلب عن النبض فهذه مأساة وإذا توقف العقل عن التفكير فالمأساة أكبر، وإذا تكلس الدم عن الضخ، فلا روح ولا جسد، كنت أنشر قصائدي التي جمعتها في ديوان المنشور » عبّاد يتحر من الشمس«: اتظن يا » حجاج « أن رؤوسنا قد أينعت أيضاً وحان قطافها ؟ أتظن أنك يا »ابن يوسف « خالع منا القلوب وقاطع أطرافها؟ أتظن يا »بن جلا وطلاع الثنايا« لو وضعت لنا العمامة سوف نخشي عرفها ❊ وكتب في »امنحني فأسك يا ابراهيم«: امنحني فأسك يا سيدنا.. فلأهدمْ معبدهم فوق رؤوسهمُ المسمومةْ ولينزلْ فوقي سخطُ الالهة المزعومة وليسكب هذا » النمروذ«الغضب الجم عليّ عيانا وليأتوا بجهنم ..أو ألف جهنم .. وليلقوا بي في النيران .. ولتأكلني النار، ولاتك برداً وسلاماً فأنا لا أعبأ يا ابراهيم ❊ وكتبت في »قبل السقوط«: وسيخدعونَك مثلما خدعوا الكثير وسيحرقون لك البخور .. ويقدمون لك القرابين الخبيثة والنذور يسعون نحوك بالكلام الحلو، والمعسول من لغة العيونْ ! وسيزحفون علي البطونْ ..! وسيكشفون لك الذي لايكشف ! وسيألفونك بالذي لا يؤلفُ وسيرقصون علي خطاك يتسكعون علي رؤاك وسيسرقون النور من عينيك، حتي يشعلوا فيك الجنون. كانت سخريتهم تشتد، وكان صبري أشد، والميزان كان في معادلة »التخلي والتحلي والتجلي« الإشارة ساطعة، لكن لابد من الشرارة ..!حتي إذا انشق الفجر وتنفس الصبح.. استدار الشعب وأدار دورة الزمن لصالحه، أو هكذا ينبغي أن يكون.. في شكل انتفاضة أو فورة، أو حركة، أو وردة، سمها ماشئت ، فما يحدث يتأبي علي التصنيف المذهبي الضيق تحت التوصيف الإلهي المطلق:»إن لله عبادا إذا أرادرا.. أراد«ولقد أراد الشعب المصري ، وكان له ما أراد، في ضياء مقامات المنظومة الصوفية الثورية، لقد حدث» التخلي« ويحدث الآن »التحلي« أما »التجلي فلم يتشكل إلا قليلا..!. أين أنت يا قريتي السمراء؟ السبت: زرت قريتي »سنهوت، مركز منياالقمح بمحافظة الشرقية« مكثت فيها وقتا وأنا أبحث عنها بعد 52 عاما من الاغتراب النسبي، فلم أجدها، المباني كلها أسمنتية، عمارات شاهقة، شوارع مزدحمة، بوتيكات من كل نوع، حتي كوافير النساء، ومحلات البيتزا، والكي بالبخار، والسوبر ماركت، والتكتك وسيلة مواصلات داخلية، و..و.. وأظل أتساءل أين قريتي السمراء وهوي الربيع يلفها، وكأنني واحد من أهل الكهف. تهت في الشوارع، وضاع من قدمي الطريق كثيرا وأنا أشاهد اغتصاب البراءة وتلفحني الخواطر في وسط قريتي وقد أصبحت بلا قلب، وصارت صورة تتكرر في كل القري.. هي (القرية) اصبحت بين عشية وضحتها رمزا للتحضر والحضارة والنور والاستنارة ، بل والتكنولوجيا والكونية، وصرنا نسمع ليل نهار تعبيرات من قبيل:العالم أصبح (قرية) كونية وقرية الكترونية،والكون (قرية) تكنولوجية مصغرة!. هكذا تغيرت النظرة وممن ؟ من الذين طالما روجوا في بداية المد الاستعماري البريطاني والفرنسي والامريكي والايطالي للشرق المعذب بعذوبته في الايام الخوالي ! كانوا يصفوننا بأننا مجتمع زراعي متخلف، لا يستطيع الانتقال الي مجتمع صناعي متطور، وكانوا يسوقون فكرة »ضرورة « و» حتمية « و» بُديّة « الانتقال من مجتمع القرية والفلاحين والمزارعين ، مثلما يسوقون الآن لعبة » العولمة« و » الشرق أوسطية « و»الكونية « راحوا يعزفون علي مسألة القرية التي هي رمز للتخلف وان المدينة تخون القرية دائما ، حتي صارت وهما كبيرا تجسد في كثير من الاذهان التي يسهل انقيادها ، وشبحا جميلا في وجدان الذين انطلت عليهم اللعبة ، وكم من الالاعيب البهلوانية تنطلي علينا.ولجأوا في ذلك الي الكثير من الوسائل والادوات المشروعة وغير المشروعة والشرعية واللاشرعية حتي انتهوا من مص الدماء الشرقية ، وامتصاص خيرات الشرق ، وافريقيا علي وجه التحديد، وامتلأت بطونهم وجيوبهم ومصانعهم وقبعاتهم بخيرات الارض الثالثة او العالم المسمي بالثالث علي حد زعمهم ! حتي اذا فرغوا من ارتشاف الدماء النقية الذكية المشبعة بالطهر والبراءة والمجبولة علي الخير والسكينة والوداعة ، وفضوا بكارتها وبراءتها وطهارتها، مالوا وانحرفوا 081 درجة عن مقولاتهم البشعة في باطنها والبراقة في ظاهرها، وحولوا القرية بقيمها واصالتها واصولها ، وجذورها وبذورها الي لعبة سياحية وموضة عصرية، تتغذي علي »الكافيار «، و»الهامبورجر« وتنام علي اشرطة الفيديو وتصحو علي ثقافة الساندويتش والكابتشينو، وهي التي كانت تصحو قبل قرآن الفجر، وتكاسل تعبير »الحركة بركة« و»النور في البكور « ولم يعد الصبح يتنفس في القرية كما ينبغي ان يكون !. تحولت الارض المنتجة المبدعة الفياضة بالخيرات والخبرات الي بطن مستهلكة ، وسوق مهلكة ، ونفس بغيضة ، واشتروا لها من يروج لها بثمن بخس دولارات معدودة ! واصبحنا نري القرية هي التي تخون المدينة ! فصار الفلاح ابن الارض الطيبة .. يتناول فطوره في الفراش الوثير ، ويتمطي ويتغطي في »الضحي العالي « وكيف لا وهو يسهر الليل امام شاشة الفيديو ، واولاده يلعبون » البلاي ستيشن « وصارت الفتاة تخضب وجهها البريء بالمساحيق و»الجينز «اصبح هو »الكاكي « وادوات الزراعة اصبحت ميكنة الكاوبوي وديزني لاند ! صارت القرية امل المدينة .. والهروب الي القرية موضة وعصرية ! واقتناء »بيت « أو » دار « او » عشة« في القرية السياحية واحدة من اكبر الاماني لدي سكان كوكب المدينة ! أهي عودة الي الطبيعة ؟ الي الاصل ؟ الي السكينة؟ الي البراءة ؟ ام أنها لعبة جديدة واقنعة أخري ؟ لك أن تفهمها كما تشاء، وسلام علي البراءة، وسلام علي الذين فضوا غشاء البراءة!.