إذا كان يتحدث إلي امرأة يخطبها، ينسج لها من أحلام اليقظة ما تعجز عنه أحلام المنام الأحلام بين الحياة والموت السبت: خلق الله الموت والحياة علي كل شيء، وكما يحيا الإنسان ويموت يحيا كذلك كل شيء ويموت، ولا غرابة أن نري كل الكائنات كذلك من البشر والشجر والدواب، لكنا لم نعهد حديثا عن موت الأحلام، التي هي متنفس الإنسان تبشره بخير هو له أهل، وتكون من وساوس الشيطان الذي يلعب بالإنسان في نومه، لنغصه عليه، لأنه يئس من تنغيص يقظته، حيث أحسن الظن بالله، وركب متن الأسباب، فحقق رسالته في الوجود، وقد يكون الحلم حديث نفس، يحلم المرء في منامه بما يحدث به نفسه في الواقع الحي اليقظ، أيا كان هذا الحديث، من حسن ومن قبح، وأنا أحاول في تلك الأطروحة أن أقرأ شيئا في شهادة وفاة الأحلام، التي أراها أسلمت الروح إلي بارئها، في الوقت الذي يري كثير من الناس فيه أنها مازالت حية تنمو كل ليلة، وتسعي وترغد في صدور النائمين الذين يصحون حاكين ما رأوا في منامهم مما لا تتسع له المجلدات، كذلك يرونها سيالة علي وجه الشاشات، حيث يقعد مدعو تفسير الأحلام، ولا تكف عنه الاتصالات سائلة مستفسرة عما رأت من أحلام بعضها متكرر، وبعضها جديد، والمدعي يشرح ويسأل، ويبشر، ويلبس عباءة ضاربة الودع التي تقول لمن رمي لها بياضه، ونفحها بعض النقود: في حياتك اثنان يحبانك، واثنان يكرهانك، ولك غريب حبيب، تتمني عودته وهو يسألها: آه والنبي، شوفي لي حيرجع إمته اللي مدوخني، فتسأله أن يرمي بياضه من جديد، فيهرع بالدفة ليعرف متي يعود حبيبه المنتظر، فتقول: بعد نقطتين، والعلم عند الله، قد يكون بعد شهرين أو بعد أسبوعين، أو بعد يومين، وقد يعود بعد دقيقتين، فيشهق قائلا لها: يسمع من بقك ربنا، وقد يعود الغائب، فيقسم الساعي إلي الوهم أن المرأة تعلم الغيب، وأن الله يضع سره في أضعف خلقه، وهكذا، والقراءة في شهادة وفاة الأحلام ينبغي أن تكون كالقراءة في شهادة وفاة الإنسان، إن كان قد مات بسبب صدمة قلبية، أو ضربة مخية، أو غير ذلك من أسباب الهلاك الذي هو الموت، وأول ما يقرأ في شهادة وفاة الأحلام أنها لم تجد ما تتنفسه، فاختلت دورتها الحياتية، فماتت، ومتنفس الأحلام كمتنفس الإنسان، إلا أن الإنسان يتنفس عن طريق أنفه وفمه أو عن طريق متنفس صناعي ينعشه قليلا، حي يتمكن الطبيب الحاذق من علاجه، أو يسلم ذلك الطبيب الراية قائلا لأهله: الدوام والبقاء لله، شدوا حيلكو تعيشوا أنتم. لكن الأحلام تتنفس من روح ما كانت له، وأول ما خلقت له الأحلام أن تكون بشري من الله كما جاء في صحيح البخاري فمن الذي يبشره الله في حلمه؟ والله عز وجل يبشر عباده المؤمنين العاملين المخلصين الذين يحسنون الظن به، فإذا هم يحسنون العمل، كما قال عليه الصلاة والسلام في رجل كان يتحرك في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، قد يزرع لك المسلم زرعا أحسن استصلاح تربته، واختيار بذوره، وموسم زراعته، وعاد من شقاء يومه في معالجته ورعايته، ويعود آخر النهار مرهقاً كالاً من عمله فيرتمي علي فرشه من أثر جهده لا يعلم يمينه من شماله، فيري في منامه أنه قام هو وأسرته في يوم الحصاد، وإذا بالطرح يشرح الصدور، ويكثر الحاسدين الذين ماتوا بغيظهم، فإذا صحا من نومه، ومسح آثار النوم من علي جبينه، وحدث بحلمه هذا أحداً من الناس، فقال له: خير إن شاء الله، كان قوله هذا صحيحا، وليس ذلك الزارع في حاجة إلي مفسر أحلام، فقد فسره له النبي صلي الله عليه وسلم من قبل، فقال: من رأي خيراً فالله يبشره، خيراً رآه وهو للخير أهل، لأنه زرع وقس علي ذلك الطالب الذي اعتكف علي كتبه ينهل منها، فكان وقت تحصيله طويلا، ووقت لعبه قليلا، لو رأي في منامه أمه أو من في منزلتها توزع الشربات علي الجارات، وأهل الحي الكرام يزفونه في موكب كموكب العرس، وهو يرتدي الجلباب الأبيض الذي تؤثره الأحلام الجميلة، ولا ترضي بغيره بديلا، وهو يشير للواقفين في النوافذ والشرفات بكلتا ذراعيه وكأنه رئيس دولة يحيي طوائف من شعبه اصطفوا للترحيب به أثناء مروره لما يقدمه لهم من رخاء العيش ورفاهية الحياة، وأن مجموعه مشرف، فقد حصل علي الدرجات النهائية في معظم العلوم، تلك الرؤيا بلاشك بشري من الله لهذا الطالب المجتهد الذي بذل جهدا يذكر فيشكر كما كان الزارع كذلك. وقس علي ذلك كل مجتهد عامل يري في منامه خيراً، فتلك بشري منه تعالي القائل: »إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا». فالله تعالي لا يبشر المفسدين، ولا العاطلين الذين قال فيهم ولهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبلا علي عاتقه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه. فإن قال قائل: لكن هذه الرؤيا قد يراها بل قد يري أبهي منها في منامه من لم يزرع ولم يصنع ولم يعمل في أنابيب البوتاجاز البديل عن الاحتطاب، وكذلك الطالب الذي كان وقت تحصيله قليلا، ووقت لعبه طويلا طويلا! والجواب أن هذه عفريته الأحلام، التي قتلت، وليست الأحلام الحقيقية. والرؤيا حديث نفس الأحد: ومعظم ما يراه الناس من باب حديث النفس، فانظر بم يحدث الناس أنفسهم في يقظتهم حتي تفسر أحلامهم التي يرونها من هذا القبيل، حين كانت النفوس كبارا كانت تحدث نفسها بحديث أكبر من الواقع الذي يعيشونه، لأنهم حققوا الكبير فلم يبق إلا الأكبر الذي يمكن أن تسميه الطموح، وقد يعبرون عنه في أقوالهم وأشعارهم، وللطموح أدواته ومعالمه ومناخه الذي يكون عليه المجتمع الذي يعيشون فيه. فحين قال النبي صلي الله عليه وسلم: المرء مع من أحب قال أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: لقد فرحنا بهذا الحديث فرحا، لم نفرح مثله منذ كان الفتح أي فتح مكة فأنا أحب أن أكون مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن لم أعمل عملهما، ففي حياة أنس مثل الصاحبين الكبيرين اللذين جاهدا جهادا عظيما في خدمة هذا الدين، بيئة يعيش فيها أنس، صحت كثيرا ونامت قليلا، ألا تري إلي قول الله تعالي فيه: »كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون» وقال سبحانه وتعالي فيهم: »تتجافي جنوبهم عن المضاجع». إنها بيئة يقظة، وإدراك أن قليلا من النوم يكفي، فللنوم مرحلة أخري في حياتهم حين تنقضي آجالهم، ويوسدون التراب، هنالك ترتاح الأبدان لارتياح الأرواح في جنات وعيون بما قدموا من عمل صالح في سياق الحياة الدنيا، فهم يزرعون ويتاجرون حتي يكونوا للزكاة فاعلين، وإذا ما وفد وفد علي النبي صلي الله عليه وسلم وكان في حاجة إلي معونة جمعوا له ما يشبه الهرم من الصدقات، يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم، جاء عبدالرحمن بن عوف لهذا الوفد بأربعة آلاف هي نصف ما يرزقه الله، وجاء رجل اسمه أبوعقيل رضي الله عنه بصاع من تمر هو نصف أجره في اليوم حيث كان يسقي للناس نخلهم بصاعين، فتساوي وعبدالرحمن بن عوف في النسبة، وإن اختلف المقدار، وجاءت الرواية بهذا التعبير: فتكون هرم من الصدقات بين يدي رسول الله صلي الله عليه وسلم »وصاحب الطموح الحقيقي هو من يملك مقوماته ويسعي علي درب تحصيله، فإن بلغ مبلغه فالفضل لله عز وجل، وإن وصل إلي أدني مما حدثته به نفسه كان رضاه به من قبيل ألا وقت عنده للسخط، لأنه يحاول الوصول إلي الكمال، والوصول إلي مستوي قريب من الكمال كمال. وقال سأل رجل شجاع ولده، فقال له: في شجاعة من تحب أن تكون يا ولدي؟ فقال: في شجاعتك يا أبي، فضربه أبوه، وقال له: كنت وأنا في مثل سنك أرجو أن أكون في شجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوصلت إلي ما وصلت إليه، وأنت حين ترجو أن تكون في شجاعتي فلن تصل إلي شيء، وهكذا يكون حديث النفس في المنام، يحدث الطموحة نفسه في اليقظة بالوصول إلي أعلي الدرجات فإذا نام وحلم بهذا المستوي فقد طابقت يقظته منامه فبها ونعمت، وإن وجد في منامه آيات الكمال المرجو، وصحا من نومه فإذا بالحلم الذي رآه في منامه مشجعاً له في يقظته حيث يعمل بقول الله تعالي: »فإذا فرغت فانصب» أوكلما فرغت من عمل صالح فاتعب في عمل جديد، ولتكن راحتك نادرة، وليكون عملك هو القياس المطرد الذي يعول عليه، فإن قيل لكن من لا مقومات لطموح عنده يحدث نفسه ومن يعرف من الناس بأنه غدا سيصبح أغني من أغنياء زمانه، وأنه سيركب النفاثة، وسيفطر في لبنان علي شاطئ طرابلس الهادئ الناعم، ويتعشي في ميناء مارسيليا خصوصا إذا كان يتحدث إلي امرأة يخطبها، ينسج لها من أحلام اليقظة ما تعجز عنه أحلام المنام، ثم يري هذا الحديث في منامه فهذا أيضا ليس حلما يعتبر، وإنما هو عفريتة حلم مقتول قتله حديث النفس الساقطة التي تتحدث بالمحال حيث لا جد ولا بشائر جد. تلاعب الشيطان الاثنين: وبقي الجزء الثالث والأخير من أجزاء الرؤي وهو من رأي شرا فالشيطان يخوفه، أو هو من تلاعب الشيطان ببني آدم يريد أن ينغص عليهم منامهم لأنه فشل في تنغيص يقظتهم، أو نجح فأراد أن ينغص منامهم كما نغص يقظتهم، لأن الشيطان لا يشبع من إغواء الإنسان، يحاول جهده أن يخوف الأولياء، ويحاول جهده كذلك أن يزيد الظالمين عدوانا، فهو كالنار التي خلق منها حيث قالت حين سئلت هل امتلأت؟: هل من مزيد، وكل شيء إلي أصله يعود، وبالنظر إلي قول الله تعالي من سورة الأعراف: »واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين». نجد أن هناك من يصير الشيطان تابعا له، وكأنه صار له أستاذا وعلما، وصدق الله حيث قال: إن كيد الشيطان كان ضعيفا، والضعيف الذي أخبرنا من خلقه بضعفه لا يبلغ كل شأن، ولا يصنع كل كيد فهنالك النفس الأمارة بالسوء، وقد قال لنا ربنا: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، وهنالك الهوي الفاسد الذي يستطيع المؤمن نهيه ودفعه عنه، وهنالك ما ذكره الله صراحة لا ضمنا، فقد ذكر ربنا الشهوات، فقال في آية النساء: »ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما». فالشيطان جزء من تلك المجموعة المغوية للإنسان، وليس هو وحده مصدر الإغواء والإضلال، وقد رأينا كل هذه المجموعة وعرفناها، لكنا آثرنا أن نطلق وصف الشاطر علي الشيطان، وهو الخناس الذي بذكر الله يجري ويبعد بينما رفيق السوء الذي يجلس إلي جوارك إذا ذكرت الله ذكره معك، حتي تطمئن إليه، وتسلمه رقبتك ليقطعها وأنت من يقين الوهم تعتقد أنه سيطلها ويرفعها في عنان السماء، إن ذكر الله لم يكن إلا ذكر لسان، والقلب ميت، كما صارت الأحلام ميتة، فإن رأيت في منامك ما يمكن حمله علي تخويف الشيطان فهذا أيضا من قبيل تخويف أحد المجموعة التي برأنا ساحتها، واتهمنا الشيطان وحده، وهو بريء من هذا الاتهام، كل الأحلام ميتة، ولم يبق منها إلا أشباح تلاحقنا كي نلحقها أيضا فنموت.