من حين لآخر تفاجئني الأخبار بما لم يكن في الحسبان، إذ بعد نشر مقالي"الإصلاح والتغيير أو اللبننة" في عدد الأربعاء الماضي وإذا بسيل المراسلات والمحادثات لم ينقطع علي مدار يومين. والملاحظ أن اهتمام الجماهير والقارئ العادي كان موازياً لإهتمام النخبة وإن زاد عليها صفاء الرؤية ووضوح الأهداف مع محدودية سقف الطموحات التي انحصرت في الوفاء بحاجاتهم المعيشية واستقرار أوضاعهم الأسرية والإجتماعية. اللافت للنظر أن طموحات النخبة كانت أعرض وأكبر حيث إنصب جام غضبها علي النظام ككل، بينما حددت الجماهير في العينة العشوائية التي وصلتنا منها المكاتبات والمحادثات رغبتها في أن يأتي التغيير علي أجندة الدولة ومن داخل مؤسساتها، تحسباً لحركات إحتجاج غير محسوبة قد تؤدي إلي وقوع الفوضي والإضرار بحياة الناس ومصالحهم. وجاءت تنويعات المطالبة بالتغيير تحت شعار "بيدي لا بيد عمرو"، الأمر الذي يؤكد ما كتبته وألححت عليه مراراً عن حضور الجماهير بكامل وعيها في المسألة الوطنية بينما ترصد الأحداث إستغراق النخبة في أمنيات الإطاحة بالنظام السياسي العام جملة وتفصيلاً، وهو أمر لا يزال محل خلاف، ناهيك عن أنه قفز إلي المجهول ولا يخلو من مغامرة. وعلي أي الأحوال فهذا أمر مرده الطموح السياسي الوثاب لدي النخب في كل المجتمعات حديثها وقديمها، وفي كل الأنظمة السياسية في العالم بقواها التقليدية والمعاصرة، الراديكالية والليبرالية علي حد سواء. وهو أمرلا يعيب النخبة حيث هي طليعة الطبقة الوسطي وتطلعها للتغيير والتحديث والنهضة، وربما هي ظاهرة ارتبطت ببعد نظرها وقدرتها علي استشراف المستقبل والعمل من أجل ضماناته واستحقاقه. أما جماهيرنا المتمثلة في هذه العينة من القراء ذوي الأنشطة العملية والمهنية المختلفة فإنما ينحصر كل تفكيرها في كيفية الوصول إلي الستر أو مجتمع الكفاية الذي يخرج بهم من حد الكفاف أو ما دونه، ولا تلمح في مطالبها وكلماتها أي طموح أو رغبة للوصول إلي مجتمع الرفاهة والإمتلاء علي غرار التطلعات المظهرية للأغنياء الجدد nouveau riche والتي تختلف ثقافياً وسلوكياً وحتي إجتماعياً عن مثيلاتها من الطبقات الأرستقراطية التقليدية ذات الجذور العريقة في إهتماماتها ومساهماتها المجتمعية والإنسانية المعروفة. إنصبت معظم التعليقات علي رغبة عارمة في إحداث حركة تغيير عاجلة تتسم بالمبادرة من جانب الدولة، وتعمل علي سد الذرائع فيما أسموه الفشل البادي للحكومة الحالية علي الوفاء بمتطلبات الحياة الكريمة للجماهير، وبدا الرهان قائماً علي الرئيس مبارك ثقة وإيماناً بقدرته علي إحداث هذا التغيير العاجل، لأنهم يرون ونحن معهم أن البدائل قد تكون عالية التكلفة ولا يسمح بها الظرف العام لدولة لا تزال تبحث عن طريق للوصول إلي مفردات عقد إجتماعي أول شواهده الشراكة في الوطن والحق في تقرير محددات ومؤشرات التنمية بما فيها التوزيع العادل للدخل القومي العام وتقليص الفجوة بين الأجور والأسعار والحد من البطالة ومعاملة المواطن بإعتباره شريكاً ذا حق مقدس في ملكية مقدرات هذا الوطن لا واحداً من الرعايا. وكان النقد جارحاً للغياب الطوعي لبعض وزراء الحكومة عن أهم مسئولياتهم في التعامل اليومي والعاجل مع مشكلات العمالة المصرية التي اضطرتها ضغوط الحاجة وقلة ذات اليد إلي إفتراش العراء والتحاف السماء علي أرصفة مجلس الشعب. ومع تنامي ظاهرة الإضرابات والإعتصامات وتغيب الأحزاب والحكومة والمؤسسات النيابية والنقابية والوزراء عن التعاطي السياسي النشط والتعامل المرن مع هذه الحركات الإحتجاجية الغير سياسية بالأساس، إنما يعطي إنطباعاً عن تخلف دور الدولة وضعف هياكلها السياسية وجمود أفق الحكومة ووزرائها وافتقادهم المرونة الكافية لإحتواء غضبة الناس وحل مشكلاتهم، وفي الحقيقة فإن أغلبها من صنع الحكومة نفسها وسياساتها الفوقية وتعالي بعض الوزاراء وإعتمادهم في دواوينهم ومكاتبهم علي بعض محدودي الكفاءة معدومي القدرة علي الفعل والإبتكار والمبادرة أو ما يطلق عليهم إصطلاحاً "المديوكر". إن أولئك المديوكرات من متوسطي الموهبة لا يعبؤون بأداء واجباتهم تجاه الجماهير بقدر إهتمامهم بإرضاء أولي الأمر من الرؤساء والوزراء والمتنفذين، فهم أصحاب ولاء لا كفاءة. ومن هنا جاء تجاهل الحكومة لكل المطالب المشروعة والإحتياجات الضاغطة علي محدودي الدخل من أولئك المنكوبين بسياسات الخصخصة وبيع المصانع وتفكيك بنية التصنيع الذي كان في طليعة معاركنا الوطنية في الستينيات. ذكر أحدهم وأحسبه محقاً فيما قال: "تصور لو جالنا الوزير بنفسه أو حتي مندوب عنه وقابلنا علي الرصيف وسمعنا كان ممكن جزء كبير من المشكلة يتحل، لكن لا ادونا حقوقنا ولا حد عبرنا أو سأل فينا" وهنا مكمن الخلل في السياسات الحكومية التي تعاملت مع الناس بنفس منطق تعاملها مع الأرقام والدفاتر والحسابات، وتناست الحكومة وبعض وزرائها أن الفارق كبير بين إدارة الأوطان وإدارة الشركات والمؤسسات. الأوطان لا تدار بحسابات المكسب والخسارة، ورغم أننا شعب يحقق أقل معدل إنتاج، لكننا أيضاً نرضي بأقل المسموح من الإمكانات والتسهيلات والعطايا والهبات التي تمنح للبعض وتمنع عن الآخرين. البعض تحدث عن أزمة استوزار أهل الثقة وتقديمهم علي أهل الكفاءة والخبرة، والبعض تحدث عن مصيبة استوزار التكنوقراط، والبعض ذهبت به بصيرته إلي أن المشكلة لا تكمن في هذا أو ذاك وإنما في عدد غير محدود من وزراء الصدفة أو وزراء المصالح والمعارف والكارتلات من غير السياسيين، وأحسب أن القائل بذلك محق فيما ذهب إليه. إن هناك إحساساً عاماً بضعف الحكومة وتآكل مصداقيتها ومحدودية قدرتها علي المبادرة وتركيز سياساتها بشكل فوقي وإنتقائي، وتغليب الخاص علي العام عند بعض وزرائها ممن لا يتردد في إهدار الكفاءات وضرب المشروعات والإستهانة بالسياسات حتي لا يبدو أن هناك من هو قادر غيره علي الإنجاز والإبداع والنجاح. وبعضهم يتفنن في تصعيد بعض المديوكرات ويصل بهم إلي وظائف عليا دون مبررات من كفاءة أو موهبة أو مهنية رفيعة، الأمر الذي وصل بنا إلي تقزيم كثير من هيئاتنا الكبري التي تسيرها قوي الدفع الذاتي بأقل طاقاتها بينما لو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب لكانت نهضة شاملة وأفق يحمل بشارات مستقبل أفضل. لفت نظري واحد من الخبثاء السياسيين إلي ظاهرة في بعض الوزارات أسماها "أصحاب رابطات العنق الحمراء" وراح يعدد الأسماء والملابسات والحكايات، العجيب أنها فعلاً ظاهرة كنت أتشكك فيها، ومن شواهدها أن يستقدم الوزير شخصاً "مديوكر" محدود الفكر والكفاءة يعمل فترة في مكتبه وسرعان ما يتم ندبه لأكثر من وظيفة قيادية في الوزارة فيحيط نفسه بهالة مصطنعة من الأهمية والإنتفاخ، ولم لا وهو صاحب الحظوة لدي السيد الوزير وهو الآمر المطاع، ويتم ترقيته مديراً لمكتب الوزير ثم مشرفاً علي القطاع الفلاني ومنسقاً للمشروع العلاني ثم مساعداً للوزير وأخيراً رئيس هيئة كبري علي درجة وزير دون سند من تاريخ وظيفي أو عطاء غير عادي اللهم إلا قربه من السيد الوزير. قال الرجل ذلك وأدرته في ذاكرتي علي عدد ممن تعاملت معهم ووجدت نفس السيناريو في أكثر من وزارة ونفس المديوكر الذي يحظي بكره الجميع ويلوك سيرته الآخرون، ووجدتهم للمصادفه جميعاً من أصحاب الكرفتات الحمراء ذ بشرط أن تكون سادة ذ وبدأت في الربط بينهم وبين كرافتات حمراء معروفة عالمياً لعدد غير محدود من المحافظين الجدد "النيوكونز" في الولاياتالمتحدةالأمريكية أمثال ريتشارد بيرل، جون بولتون، إليوت إبرامز، دايفيد بروكس، بل وجورج دبليو بوش نفسه وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق و"خوسيه ماريا أثنار" رئيس الوزراء الأسباني السابق وغيرهم من اليمين المتطرف المعادي للقضايا العربية والموالي للسياسات الأمريكية والإسرائيلية والمستهدف لمصر ودورها إقليمياً وعالمياً. هل هي إذن مصادفة؟ ربما !!