في مثل هذه الأيام قبل سنوات قليلة، عندما كانت ثورة يناير مازالت تثير نقاشا صاخبا بعضه جاد وأغلبه خليط من تفاهة وجهل وغرور، سمعت من أحدهم عبارة كان يقولها بانفعال يلامس حدود الهتاف معناها: أن رموز نظام الرئيس المعزول حسني مبارك لابد أن تتم تصفيتهم فورا من دون تحقيقات ولا محاكمات ولا كلام فاضي من هذا النوع..هكذا قال، ثم أردف معتبرا أن ذلك لو لم يحدث فلن تكون هناك ثورة ولا يحزنون !!.. وقتها استفزتني هذه الكلمات الموتورة التي تخلط علي نحو فاحش بين الثورة وما يجب أن يواكبها من إجراءات تؤدي إلي كشف حقيقة ماجري من مآس أدت للثورة، وتفتح باب الحساب العادل للمسئولين عنها، وبين انتقام أهوج سوف يفجر براكين من عنف مجنون لن يكون باستطاعة أحد السيطرة عليه ووقفه عند حد. آنذاك حكيت لقطعان الأغبياء الجهلة حكاية »المقصلة»الرهيبة التي كادت في أحد مراحل المسار الطويل والمتعرج للثورة الفرنسية أن تكون عنوانها الوحيد وملمحها الأقوي، وقلت أنها بدأت بفكرة لم تخل من نزق طريف، لكنها انتهت بمفارقة مروعة فيها من العظات والعبر التاريخية ما يكفي لكي يتعلم هؤلاء المأخوذون والمندفعون بالشطط والغرور نحو الهاوية، أن جنون العنف والإرهاب والتخوين والتكفير إذا ما انطلق وانفتحت أبواب الجحيم علي مصراعيها فلن يستثني أحدا ولن ينجو من النار هؤلاء الذين أشعلوها واستحضروا كل الشياطين.. واستهللت القصة من نهايتها، أي من أن آلة الذبح والقتل الجهنمية تلك التي ارتبطت سيرتها بسيرة ثورة عظيمة رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة، حصدت في أقل من خمس سنوات أرواح نحو 35 ألف إنسان يتقدم صفوفهم جميعا أبرز وأهم قادة الثورة المحفورة أسماؤهم حتي الساعة، ليس فقط في لحم تاريخ فرنسا وحدها بل تاريخ الإنسانية جمعاء، من أمثال »دانتون»و»مارا»و»سان جوست»و»هيبير»و»ديمولان»و»كوندورسيه»و»أندريه شينيه»و»مدام رولان»و»بابيف»، فضلا عن»ماكسميليان روبسبير»ذلك القاضي السابق والثائر الخطير الذي رفع شعار »سلامة الشعب أهم من شكليات العدالة»، فلما أنعقدت له القيادة في ذروة مرحلة الأرهاب الثوري طبق هذا الشعار بحذافيره ووسع دائرة المشبوهين سياسيا فذبح الآلاف بالشبهة حتي جاء عليه الدور وقُتل هو نفسه بالطريقة عينها!! أما بداية حكاية المقصلة فتبدو الطرافة فيها واضحة جدا، إذ كانت فكرتها من نبت خيال النائب والطبيب البارز جوزيف جيلوتان الذي عرض علي الجمعية الوطنية التأسيسية (برلمان الثورة) ذات يوم اقتراحا خلاصته أننا مادمنا قمنا بثورة شعارها الرئيسي المساواة بين المواطنين أجمعين فلابد من تعميم طريقة الإعدام بقطع الرأس علي كل المحكومين بهذه العقوبة، ومن ثم يتعين فورا إنهاء التمييز الموروث من العهد البائد في وسيلة تنفيذ حكم الموت بين المدانين المنتمين لطبقة النبلاء والمجرمين العاديين، وقال الدكتور الثوري مسوغا فكرته: أن المجرم النبيل يتمتع وحده بميزة الإعدام ذبحا بينما زميله المجرم المنحدر من طبقات الشعب يعدم شنقا!!.. وشفع جيلوتان اقتراحه الذي وافق البرلمان عليه بتصميم مبتكر لآلة قتل جديدة أبدعها هو بنفسه وتتميز بأنها ذات نصل حام قاطع يجز الرؤوس بسرعة ودقة وبألم أقل..منتهي الرقة والإنسانية!! أحال البرلمان بسرعة اختراع معالي النائب إلي طبيب مرموق آخر هو أنطوان لويس سكرتير الأكاديمية الملكية للجراحة حتي يبحث الموضوع، وبالفعل قام هذا الأخير بكتابة تقرير زكي ورحب فيه باختراع جيلوتان، وبناء علي هذه التزكية صدر مرسوم بتعميم استخدام آلة الذبح المبتكرة التي أطلق الناس عليها في البداية أسم »لويزون»أي »لويزة الصغيرة»نسبة للدكتور لويس صاحب تقرير إجازتها، غير أن منشورا رسميا صدر بعد ذلك أعاد الفضل والحق لصاحبه الأصلي وتضمن تسمية المولود الدموي الجديد »جيلوتين»، وهي لفظة مؤنثة مشتقة من أسم الدكتور الثوري صاحب الاختراع!! هذا المنشور أثار غضب جوزيف جوليتان لأنه لم يكن يريد تخليد اسمه بهذه الطريقة، أي مقترنا بآلة قتل شنيعة أفلتت رأسه هو نفسه بمعجزة من أن تسقط تحتها عندما كان واحدا من »المشبوهين سياسيا»الذين اعتقلهم روبسبير وأمر بقتلهم جميعا علي »الجيلوتين».. بيد أن روبسبير نفسه أدركه حكما (ثوريا أيضا) بالإعدام علي تلك المقصلة قبل يوم واحد من تنفيذ الأمر بقتل مخترعها!!! هكذا تدور الدوائر.. فهل نتعظ ؟!