الساحة السياسية في مصر تمتليء اليوم بالضجيج والتنافر مع طوفان من الآراء المتضاربة والمتصارعة حتي بدأ المواطن المصري ينصرف شيئا فشيئا عن الاهتمام بهذا الهراء الذي كنا نريد له أن يكون علامة صحة فأصبح علامة وملمحا للانتهازية ولمحاولة رفض الآخر والكلام السطحي من كل من هب ودب. هل نكون دولة دينية أم مدنية وهل نكون دولة مدنية ذات مرجعية دينية أم دولة بلا مرجعية والمادة الثانية هل تبقي أم تذهب. المتطرفون المسلمون يطلقون تصريحات بعضها واع وبعضها بلا وعي والمتطرفون المسيحيون يرفضون كل ما يصدر عن التيار الآخر خطأ كان أم صوابا لا أحد يلجأ لحقائق الأمور.. لا أحد يقدم رؤية علمية موضوعية تعتمد علي أصول ثابتة أو ثوابت راسخة. الكل يتكلم والكل يريد أن يركب الموجة والكل يريد أن يصنف هنا أو هناك.. وسط هذا الهرج والمرج وجدت نفسي في محاولة للبحث عن العزاء متجها الي الماضي في محاولة لاستكشاف هاديء للأمور وعلي الفور قفز الي الذهن اسم الاسطورة القانونية والعلامة الكبير المرحوم الدكتور عبدالرزاق السنهوري والعملاق الراحل كان قاضيا ولكنه ليس كقضاة اليوم وكان مستشارا ولكنه ليس كمستشاري اليوم وانما كان عملاقا من الرواد الذين انقرضوا ورغم ذلك فمازال حيا ومازال موجودا.. العلامة الراحل كان مهموما بقضية في غاية الأهمية نذر لها حياته كلها.. هذه القضية هي حقيقة الشريعة الاسلامية والقضية بالنسبة له لم تكن سياسية فهو لم يكن مسيسا ولم يكن ينتمي الي أي فصيل ولا لأي حزب ولم تكن بالنسبة له هوسا دينيا فلم يكن الهوس الديني من صفاته أو ملامحه وانما كان عالما وفقيها يتجاوز علمه الحدود والسدود والقيود.. يبحث عن حل لهموم الانسان أينما كان.. العلامة الراحل لم يكتف بالكلام ولم يلجأ الي الاعلام والصحافة بحثا عن مغنم أو مظهر أو منصب وانما انكب علي البحث والدراسة وأعد بحثا في حقيقة الشريعة الاسلامية اعتمد فيه علي اظهار الحقيقة المجردة في هذا التشريع العظيم، قارن كل الشرائع وعرض لكل الثوابت التي جاءت بها واستعرض كل القوانين اليونانية والرومانية والفرنسية وقبلها شرائع حمورابي.. وفي بحث علمي فذ وعميق وفريد وجديد تقدم الي مؤتمر لاهاي ومؤتمر لاهاي المقصود عقد عام 2391 وشارك فيه عمالقة القانون وخبراء الدساتير من كل ارجاء العالم. لم ترسله الحكومة ولم تدعمه الدولة وانما تقدم للمؤتمر كعالم وفقيه ليواجه علماء وفقهاء انتماؤهم الأول والأخير هو للبشرية كلها وهدفهم الأوحد والأصيل هو البحث عن الاصلح والأفيد لهذه البشرية.. البحث الذي قدمه العلامة الفقيه المصري عرض في المؤتمر.. وأصيب جميع الحاضرين بالدهشة أولا ثم بالذهول، بعضهم كان يعرف الشريعة الاسلامية ولكن غالبيتهم العظمي كانوا من أديان مختلفة وفي نهاية استعراض البحث لم تحدث أي معارضة واقتصرت التعليقات علي استيضاح بعض النقاط وفي نهاية المؤتمر كانت القنبلة، لقد أقر المؤتمر وبالاجماع ما يأتي: الاعتراف بأن الشريعة الاسلامية مصدر عالمي للتشريع والقانون. ان الشريعة الاسلامية شريعة مستقلة وقائمة بذاتها لا تمت الي القانون الروماني أو الي أي شريعة أخري. ان الشريعة الاسلامية مصدر لمقارنة الشرائع. صلاحية الفقه الاسلامي لجميع الأزمنة والأمكنة. تمثيل الشريعة الاسلامية في القضاء الدولي ومحكمة العدل الدولية. هذا الاجماع حدث في لاهاي سنة 2391 والسؤال الذي يحيرني هو كم طالبا من طلاب كليات الحقوق يعرف ذلك بل كم قاضيا ومستشارا مصريا يعرف ذلك.. لقد اختلف الرجل مع الحكومة ايام عبدالناصر لأنه رفض أن يساوم أو يتحايل علي الحق وكانت النتيجة عشرة من البلطجية اقتحموا مكتبه في دار القضاء العالي وحطموا عظامه.. وكانت النتيجة الابشع هي تعليمات بمحو اسمه من أي درس أو كتاب في كل الجامعات. فهل آن الأوان وسط هذا الضجيج الذي يملأ الساحة أن يعاد النظر في تراث هذا العلامة الفريد وهل آن الأوان لتعرف كليات الحقوق كيف تقدم لطلبتها نماذج من هذا الجيل الفذ الذي لن يتكرر.. ليس لدي اجابة. ولله الأمر