يرفع الإخوان المسلمون في مصر وأكثر من قطر عربي شعار “تطبيق الشريعة” في صراعهم السياسي محاولين إيهام الجمهور محدود المعرفة والثقافة وكأن الشريعة غير معمول بها في الأقطار العربية، وأنهم وحدهم الأمناء على الإسلام والدين والشريعة، فيما سواهم يعارضون الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله وجاءت به الشريعة النبوية وما أبدعه جمهور الفقهاء. والسؤال: هل نحن أمام دعوة واقعية لحاجة موضوعية في الوطن العربي أم في مواجهة توظيف سياسي لشعار ديني؟ سؤال في محاولة الاجتهاد في الإجابة عنه نذكر بالحقائق التالية: 1 - لأهل السنة أربعة مذاهب متبعة في الوطن العربي، وليس لهم مؤسسة دينية صاحبة القول الملزم في ما هو حلال وما هو حرام . ولم يعرفوا مطلقاً ما يشبه البابوية ولا عرفوا “ولاية الفقيه” . وقد روي عن الإمام مالك بن أنس قوله: “شاورني هارون الرشيد أن يعلق الموطأ على الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب” . وفي رواية أخرى أنه عندما راجعه أبو جعفر المنصور في الأمر قال: “إن تعدد المذاهب رحمة بالعباد من رب العالمين” . 2- ليس في سيرة الأئمة الأربعة من ادعى أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولا من كفّر مخالفه أو شكك في عقيدته . ولقد روي عن الإمام الشافعي قوله: “رأيي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأي مخالفي خطأ ولكنه يحتمل الصواب” . والمتفق عليه بين جمهور الفقهاء أن للمجتهد أجرين إن أصاب وأجراً إن اخطأ، ما فيه الدلالة على انفتاح فقهاء صدر الإسلام واستعدادهم لقبول اختلاف وجهات النظر في استنباط الأحكام من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية . والذي يبدو أن الإخوان نسوا قول المرشد المؤسس الإمام حسن البنا: “ النص مقدس ولكن التفسير إنساني، ولا بد من الاختلاف في التفسير” . 3 - كانت الشريعة الإسلامية خلال القرون الهجرية الأولى عامل توحيد قومي عربي، إذ وفرت لشعوب الوطن العربي “الوحدة القانونية” التي يسّرت تفاعلاتهم التي توّجت بتبلورهم القومي، بأن شكلوا برغم تعدد أصولهم السلالية أمة عربية على أساس الانتماء الحضاري وليس الانتساب السلالي . بحيث جاءت ذات طبيعة تركيبية تضم التنوع ضمن إطار الوحدة . كما كان للشريعة الإسلامية إسهام تاريخي في احتفاظ الأمة العربية بمقومات وجودها القومي بعد افتقاد مركز الخلافة العباسية فعاليته وشاع التشرذم والتمزق السياسي، إذ عززت الشريعة دور الثقافة العربية في تقوية تماسك المجتمعات العربية بفعل اشتراك أفرادها ليس بلغة عربية واحدة فقط، وإنما أيضاً بمنظومة فقهية وقانونية واحدة . ويغلب لدى دعاة الدولة المدنية العرب اعتماد الشريعة أحد المصادر الرئيسة للتشريع . 4- كان نابليون عندما غزا مصر سنة 1798 أول من حاول إقحام قوانين وضعية تستند إلى مرجعية رومانية على ساحة الشريعة الإسلامية، إلا أن الكنيسة والنخب الاجتماعية القبطية رفضت الاحتكام إلى قوانين نابليون في موضوع الإرث وأصرتا على مواصلة اتباع الشرع الإسلامي في ذلك . وكان الإصرار القبطي حينها ليس فقط تفضيل الأصيل الثابت في الوجدان على الدخيل الطارىء، وانما أيضاً دلالة إدراك عفوي لأهمية الوحدة القانونية في حفظ وحدة المجتمع المصري التي عرفت الكنيسة والنخب القبطية بالحرص الشديد عليها . 5- كان الفقهاء الأوائل قد تنبهوا لتأثير عامل الزمن في المصالح المرسلة للمجتمع فقالوا “تتغير الأحكام بتغير الأزمان” . ومن أبرز المسائل الفقهية التي أصابها التغيير التمييز بين المواطنين على أساس ديني . وذلك ما تداركته “التنظيمات العثمانية” سنة 1856 بإلغائها العمل بنظام “أهل الذمة”، واعتماد مبدأ “المواطنة” القائم على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين . ولقد تزايد بين قادة الفكر الإسلامي المعاصر القائلون بمبدأ عدم التمييز أمثال د . راشد الغنوشي، الذي يقول، في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية “إن ما تحقق في مجتمعاتنا من اندماج بين المواطنين على اختلاف دياناتهم وقيام الدولة على أساس المواطنة ينفي استمرار الحاجة إلى مفهوم أهل الذمة وحتى إلى المصطلح ذاته” . 6- لو تمت مراجعة المنظومات القانونية المتبعة في أقطار جامعة الدول العربية لثبت للمراجع الموضوعي أن ليس بينها أدنى تناقض مع أحكام الشريعة، لأن ذلك لو حدث لما سكتت عليه شعوبنا المسلمة في أغلبيتها الساحقة . وإن كان هذا لا ينفي وجود قوانين وأنظمة لا يقرها من يقفون عند ظاهر النصوص من الكتاب والسنة . كما فعل الذين حكموا على الأمة بالجاهلية في القرن العشرين وأشاعوا الانغلاق والتعصب والردة عما كان قد أنجزه الإمام محمد عبده وقاسم أمين ورفاق دربهما قبل قرن من الزمن . 7- خلال ما يجاوز السنوات العشر زاملت العديد من قادة الإخوان المسلمين وكبار علمائهم، في عضوية المؤتمر القومي - الإسلامي، وفي مقدمتهم الدكاترة: القرضاوي، والغنوشي، والعريان، وأبو الفتوح . ولم أسمع أحداً منهم خلال تلك السنوات يدعو إلى تطبيق الشريعة . ما يدل على صحة القول إن الشريعة معمول بها وليست مستبعدة من الأنظمة والقوانين السارية في الأقطار العربية، فضلاً عن أن المؤتمرين: القومي العربي، والقومي - الإسلامي أقرّا المبادىء القومية الستة: الاستقلال الوطني، والوحدة القومية، والديمقراطية، والتنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري . ولم أسمع من اعترض لعدم اعتبار “تطبيق الشريعة” هدفاً قومياً واجب الالتزام به . وفي ضوء ما تقدم، يغدو منطقياً القول إن رفع شعار “تطبيق الشريعة” في المرحلة الراهنة إنما هو توظيف سياسي للشعار، وإعادة إنتاج لمقولات الخوارج الذين أحدثوا الفتنة في صدر الإسلام . ولكنها فتنة تصب اليوم في قناة سياسة الفوضى الخلاقة الأمريكية، الأمر الذي لن تقل آثاره خطورة عن النتائج الكارثية للفتنة الكبرى في صدر الإسلام . نقلا عن صحيفة الخليج