عندما زاد التباهي قبل اعوام بتحسن المؤشرات الاقتصادية لنا كتبت وقتها مبتسما بان الناس لا تأكل مؤشرات اقتصادية، لان هذا التحسن في المؤشرات الاقتصادية لم يقترن بتحسن في مستوي معيشة الاغلبية الساحقة من ابناء الشعب. والآن اجدني مضطرا لان اقول الناس لا تأكل سياسة.. اقول ذلك لجميع الفرقاء السياسيين الذين يتبارون الآن في جدل سياسي كبير وواسع ولا يمنحون قليلا من اهتماماتهم وبعض من وقتهم للاهتمام بالامور والقضايا الاقتصادية.. واي تحليل مضمون للخطاب الجماهيري للقوي السياسية والاحزاب المختلفة سيجد ان السياسة طغت علي الاقتصاد في هذا الخطاب وحتي عندما احتمت هذه القوي بالشأن الاقتصادي كان اهتمامها مقتصرا فقط علي الجدل حول وجود او عدم وجود ازمة يعاني منها اقتصادنا حاليا.. وذلك حينما انقسم المتحدثون الي فريقين.. فريق يهول من هذه الازمة وآخر يهون منها بل وينكرها! ومن المفهوم بالطبع ان تطغي السياسة علي حديث القوي السياسية والاحزاب المختلفة في الفترة الحالية التي نعيشها، لانها فترة انتقالية نعيشها بعد ان سقط نظام سياسي ولم نقيم بعد نظاما سياسيا بديلا له.. وامر طبيعي ان يزيد الاهتمام بيننا حول خصائص واسس هذا النظام السياسي الجديد الذي تشرع في اقامته، وهي الخصائص والاسس التي سيحددها دستور جديد وحزمة من القوانين الجديدة مثل قوانين الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والاحزاب والمشاركة السياسية. ولكن ليس من المفهوم ابدا الا نخصص قدرا من وقتنا وجهدنا لشئوننا الاقتصادية، أو لأحوالنا الاقتصادية، خاصة ان الهدف النهائي لاي نظام سياسي سليم هو مستوي معيشي لائق وآدمي لمن يظلهم هذا النظام.. لقد كشف استطلاع الرأي الذي اجراه المعهد الجمهوري الامريكي في شهر ابريل الماضي ان نحو ثلثي من شملهم الاستطلاع قالوا انهم ايدوا مظاهرات يناير بسبب سخطهم علي تدني مستوي معيشتهم.. وهذا يعني ان الذين حولوا ثورة الشباب في 25 يناير الي ثورة شعبية كان هدفهم الاول هو الخلاص من معاناتهم الاقتصادية وانهاء تدني مستوي معيشتهم وان يظفروا بمستوي معيشي لائق.. وهؤلاء الذين يمثلون الأغلبية من الشعب سوف يقيسون الامور بالمعيار الاقتصادي قبل اي معيار سياسي.. وسوف يفرزون بين القوي السياسية والاحزاب المتنافسة في الانتخابات البرلمانية القادمة طبقا لهذا المعيار.. انهم سوف يقبلون علي من يبشرهم بتحسن مستوي معيشتهم ومن يعدهم بأجور أعلي وبأسعار اقل من يقول لهم انه قادر علي ان يوفر لهم مسكنا لائقا ووظائف لمن يحتاجها وبخدمات افضل. صحيح ان هناك شوقا كبيرا وهائل للديمقراطية بسبب الحياة في ظل الديكتاتورية عقودا طويلة، ولا يقلل من هذا الشوق ان 15٪ من الذين شاركوا في استطلاع المعهد الجمهوري قالوا انهم ايدوا مظاهرات يناير لغياب الديمقراطية.. لكن هذا الشوق الكبير للديمقراطية يخفي وراءه شوقا أكد لتحسين مستوي المعيشة، والتخلص من معاناتهم الاقتصادية.. لان الديمقراطية هي التي ستساعد في القضاء علي الفساد الذي يستنزف قسطا وافرا من مواردنا.. وستضمن رقابة شعبية تحقق لنا اختيار افضل السياسات الاقتصادية وأوفق القرارات الاقتصادية التي تخدم وتفيد الاغلبية ولا يستفيد منها عدد قليل من المحظوظين. اي اننا نريد الديمقراطية ليس فقط من اجل الكرامة وانما ايضا من اجل حياة افضل ومستوي معيشي آدمي لائق لمن يعانون الفقر وقسوته.. وهذا ما ادركه اردوغان وحزبه في تركيا.. فهو لم يغرق نفسه وحزبه في المتاهات الاخلاقية ولم يتخف وراء الشعارات الدينية، انما سعي الي كسب تأييد الناخبين من خلال عقولهم وبطونهم معا وعرف أن الطريق الي قلوب الناخبين يبدأ باقرار حقهم في تحسين مستوي معيشتهم خاطبهم باللغة الاهم لهم وتحدث معهم حول اولوياتهم الضرورية.. وحتي عندما اهتم بالجانب الديني كان اهتمامه يأتي في اطار الحرية.. حرية ان تتحجب المرأة مثلا.. لقد استفاد اردوغان من تجربة استاذه اريكان وهي التجربة التي افضت الي منعه من حكم تركيا بل وحل احزابه التي انشأها الواحد تلو الاخر.. لقد ظفر اردوغان بكل ذلك لانه قدم اولا للناخبين الوعود التي كانوا يحتاجونها وعدهم بتحسين مستوي معيشتهم واصلاح اوضاعهم الاقتصادية.. ان البعض يحلو له ان يقارن بين تجربة حزب اردوغان الاسلامي في تركيا وتجربة الاخوان في مصر، بل ان البعض يتمني ان يسلك حزب الاخوان ذات الطريق الذي سلكه حزب الاخوان لدرجة ان مؤسس حزبا منافسا مثل رجل الاعمال نجيب ساويرس قال انه سيمنح تأييده لحزب الاخوان اذا ما سار في درب اردوغان لكن الاقتصاد لا يلقي الاهتمام الكافي في حزب الاخوان وايضا في الاحزاب الاخري.. نعم من حق هذه الاحزاب والقوي السياسية ان تهتم بالدستور الجديد وكيف سنصوغه، وهل يكون الدستور اولا ام تسبقه الانتخابات البرلمانية ومن حق هذه الاحزاب ان تهتم بقضية الدولة المدنية وخصائصها وكيفية ارساء دعائمها ومن حق هذه الاحزاب ان تخوض ما يحلو لها من سجالات وحوارات حول اسلوب التعامل مع اعضاء الحزب الوطني الذي تم حله وهل يكون بالعزل السياسي ام يترك امرهم للناخبين كل ذلك واكثر منه سياسيا ايضا من حق الاحزاب والقوي السياسية ان تهتم به لكن في ذات الوقت يجب الا تهمل هذه الاحزاب الاقتصاد وشئونه وهموم المواطنين الاقتصادية ولا يكفي ان تدرج هذه الاحزاب بضعة اسطر في برامجها حول الاقتصاد وانما يتعين ان نخاطب الاغلبية الساحقة باللغة التي تريدها.. مرة أخري نقول الناس لا تأكل سياسة حتي وان كانت تحتاجها.