تري:لو قيض الله للعربية جاحظا جديدا في عصرنا الحالي كم سينال الناس منه علي مقصلة وسائل التواصل الاجتماعي كتبت ذات يوم علي الفيس بوك »يوم بلا كذب في بلادي..أمنية بلا صدي»،وعلق من أصدقاء الصفحة بالكلام من علق وسكت عن التعليق من سكت،ولم أرد علي من علق كلاما أو سكوتا،لكنني سرحت بخيالي في مصر ناهيك عن كل الدنيا بلا كذب لمدة يوم واحد؛وتخيلتها أمنية وتخيلت صداها من الواقع. يوم بلا كذب هو يوم ليس في الدنيا عموما ،لكن يوما بلا صدق أخشي أنه يوم مصري خالص تبدو معالمه ونحن بعضنا أو أغلبنا نتلقي من منافذ الإعلام المرئي والمسموع مايمليه علينا الجالسون فوق كراسيهم الوثيرة وفي غرفاتهم المكيفة دفئا بالشتاء ورطوبة في لظي الصيف.يقولون إن هناك غرفة لصناعة الإعلام ولو صحت علاقتها بما يفرضه علينا هذا الإعلام لوجبت إعادة تسميتها إلي غرفة صياغة الإعدام؛إعدام إيمان الناس بقدرة هذا الوطن علي التعافي واجتياز مأزقه التاريخي وسط تلك التحديات الداخلية والخارجية.النافخون في نار التهام المبشرات لايقل عنهم خطرا من ينفخون في فقاقيع التهويل في المنفرات ،كلاهما يتخذ من الكذب الصراح طريقا لايحيد عنه،وكلاهما يعتنق الطريقة البراجماتية الرذيلة »اللي تكسب به العب به»،وقد ذاق كلاهما الشهد وتورم حساباته وترك للناس الدموع وأنيميا الفقر الأسود المترسب جراء تصديق الآخرين لكذبه. يوم بلاكذب؛هل جربه سياسي يصدق الناس حديثا بنعم أو لا فيعمل بمقتضياتها ؟..للأسف أصبح المقابل الفعلي لنعم في التصريحات هو لا علي أرض الواقع، والعكس صحيح تماما. لا رفع للدعم تعني بكل صراحة لا إبقاء عليه.وكيف يبقون علي ماسوف يغضب صندوق النكد الدولي ويمنع قرضه المشئوم. هل جربه محام يترافع عن متهم يعلم هو تماما بإدانته ويبحث فقط في الأقوال أو الإجراءات عما يهدم القضية رأسا علي عقب فيبرئ تاجرا للمخدرات أوقاتلا أو لصا أو هاتكا لعرض أو ناهبا للمال العام أو مهدرا لحقوق الدولة والأفراد أو متهربا من دفع مليارات الجنيهات ضريبة كسبه الملوث أو متجسسا علي وطنه وأهله ؛للأسف هناك من يتخصصون في تلك النوعية من الجرائم والقضايا ويبرعون في سلوك مدقاتها وأبوابها الخلفية ومعهم الخبراء في دروبها الوعرة للوصول بملايين الجنيهات أتعابا إلي أرصدتهم بعد الوصول بالمتهم إلي سكة السلامة وخلعه كما الشعرة من عجين القضية..ويخرجون بعد ذلك علي الناس كرموز للشفافية وأعلام للوطنية. هل جربه طبيب يلوذ به أهل مريض أعيتهم السبل لعلاجه أو تخفيف آلامه فطرقوا باب صاحب اسم وشهرة ومهارة غير منكورة،ولعل مريضه يكون من أصحاب حالات اللاأمل أو كما يقولونها في الأفلام»hopeless case»ولايستجيب الطبيب لصوت الضمير إذا مالمح بأهل مريضه غني أو يسارا فيأخذ بأيديهم وجيوبهم ودفاتر شيكاتهم إلي رفقاء المهنة من تخصصات أخري وتحاليل وأشعات يعملون معا كما الشبكات السرية ويمررون الحالات فيما بينهم مرارة موجعة ماصة لجيوبه ،أو تمريرا كما فريق كروي يتناقل أفراده الكرة بالتمويه حتي تسكن الشباك ويصل المريض إلي الردي والهلاك. هل جربه مدرس يعلم حدود ماتتيحه العملية التعليمية المنهكة والمنتهكة لكنه يقف في الفصل ذرا للرماد في العيون وتنفيذا لسياسة شكلية تقول إن لدينا عملية تعليمية علي قيد الحياة؟ هل جربه وهو يجاري مخططي وزارته في تعذيب الناس بتخبط ما يظنونه سياسات، ليستدرج التلاميذ وأهليهم إلي بيته أو مركزه التعليمي المشترك أو إلي قاعات مسارح تؤجرها المافيا المتخصصة في الدروس فيستنفد ولي أمر طالب الثانوية خمسين ألف جنيه لتصل بابنه إلي باب كلية من كليات القمة ثم منها إلي ناصية من نواصي منطقته أو كرسي في قهوة أو مسلوب الإرادة أمام سارق لوعيه أو سارق لماله عبر عصابة توظيف أو تطفيش تنعكش في جيوبه وجيوب اللي خلفوه عن خمسين ألفا أخري يركب بها البحر بأحلامه فينجو بها أو يغرقان معا. والأكيد أنه لم يجربه من يتخذون من الفن ستارا لدغدغة أحاسيس من ظلت عندهم أحاسيس واللعب علي مشاعر من أفلتوا بها من مجازر المعنويات لدي الناس،والتلهي بغرائز الشباب التائه بين الضياع والمخدرات ليكون هدفا مضمون العائد لتجار اللحوم ومنتجي النخاسة وهادمي القيم الاجتماعية والثوابت الدينية ومروجي التشكيك في كل شئ ؛ والثمن شديد الإغراء: عشرات الملايين أجرا بين فقراء يقاومون العدم ،وحظوة اجتماعية لدي أهل الحل والعقد والنفوذ بين بسطاء ومعدمين ومظلومين لايملكون لنفسهم ضرا ولا نفعا، ووجاهة ونجومية تخطف أبصار المصابين برمد يحرمهم مجرد رؤية خطواتهم. يوم بلا فضائيات ولامواقع انترنت أوتواصل اجتماعي مزيف أو وجوه متقنعة بلون اللحظة وطعم المصلحة الشخصية هو يوم في حياتي بلا كذب ،والمؤكد أن مصر من حقها أن تحيا يوما بلا كذب،فهل ندعو لاتخاذ يوم سنوي مصري لحلم يوم بلا كذب؟ مثل هذا لو اجتمع علي إنسان من الخلقة والطبيعة ما اجتمع علي الجاحظ،لكان سبيله الأسرع التشرنق علي نفسه واعتزال الناس حتي يقضي الله أمره أو يعجل هو بأجله،علي أفضل الأحوال كان سيختار الحياد عن الدنيا لاينتظر منها شيئا سوي أن تكف يدها عنه. الجاحظ اكتسب اسمه الذي اشتهر به من جحوظ عينيه وذلك أقل مارمته به الفطرة من سهام.هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.تفننت المصائب في التكالب عليه فكان شديد الدمامة بارز العينين في جحوظ،قصير القامة ،مشلولا،مصابا بالنقرس،طال عمره وساء فأله وأنقذته إرادته من الاستسلام أو الانتحار كمدا..جاوز المائة عمرا لكنه لم يفقد شهية القراءة ولم تنطفئ شعلة الفكر لديه ولم يفقد البصر عزمه علي الاطلاع والعقل عزيمته علي المطالعة والتصنيف والتأليف حتي أدركته المنية صريعا تحت تلال مجلدات الكتب والدفاتر ذات ليلة. هذا البائس في نصيبه من الوسامة والرجولة لم يفقد روح السخرية حتي من نفسه حين لزمت القفشة أو القافية فوصف عينيه الجاحظتين بأنهما»بطن حوت مبتور»ومما روي عن نفسه أن عجوزا شمطاء قادته إلي صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا..وتركته وانصرفت،فسأل الصائغ عن قولها فأخبره أنها جاءته بخاتم لينقش عليه صورة الشيطان وأجابها بأنه لم ير الشيطان قط،فجاءت بالجاحظ للصائغ وقالت له مثل هذا؛تقصد أن يرسم صورة للشيطان مثل وجه الجاحظ. بل إن أحدهم قال فيه بيتا: لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان إلا دون قبح الجاحظ ويرد الجاحظ ببرود يحسد عليه:لا فض فوك! بل تركوا خلقته إلي خلقه ودينه فرموه بالضلالة والجهل والزندقة وجردوه من الروح الإنسانية. لكنه تجاوز عن كل ما سبق بسمو روحي نادر وقدرة غير ذات نظيرعلي تحويل الحجارة التي رموه بها إلي تلة عالية من الإنتاج والأدب والموسوعية المتفردة فيما ترك لتتباين الروايات حول عدد مؤلفاته ومصنفاته مابين المائة والخمسين والثلاثمائة والخمسين كتابا أعلاها وحيدا في قمته عربيا وعالميا»الحيوان»و»البخلاء»و»البيان والتبيين»... وغيرها من درر العربية الخالدة. تري:لو قيض الله للعربية جاحظا جديدا في عصرنا الحالي كم سينال الناس منه علي مقصلة وسائل التواصل الاجتماعي ، وكم ستبلغ به عزيمته، وكم سينال منه عداء بين دنيا السياسة والجادين الصادقين من أهل الفكر والأدب بعيدا عن الراقصين علي الحبال الآكلين في كل المحال؟ شعراء كوكب الشرق ولست بصدد تناول شعراء أم كلثوم الذين طارت كلماتهم في الآفاق علي جناح موهبة فريدة وصوت قيل إن ذبذباته كانت الأعلي عالميا في القرن العشرين.إن من تسابقوا لنيل جواز السفر إلي فضاء الشهرة علي ذبذبات ذلك الصوت أقل ممن التمسوا الشهرة عن طريق آخر هو التغني بموهبة أم كلثوم في قصائد ضمها ديوان الشعر العربي المعاصر وحصرها الباحث الدكتور إبراهيم عبد العزيز أبو زيد في إحدي وسبعين قصيدة قيلت فيها أو تناولتها تصريحا وتلميحا مذ كتب أحمد رامي قصيدة»إليها» عام 1924وصولا إلي وقتنا الحاضر. أما الأسماء التي ضمها عقد المتغنين بموهبة أم كلثوم فيدعو للرهبة بالفعل،ولم لا وهي قمة هرم الأداء وهم قمة هرم القول في شعرنا المعاصر؛ولنستعرض معا دون ترتيب:شاعر البادية محمد عبد المطلب.أحمد شوقي.أحمد رامي.العراقي معروف الرصافي.صالح الشرنوبي.عباس العقاد.الشاعر التركي ابراهيم صبري بترجمة المحقق العلامة محمود شاكر.عزيز أباظة.زكي مبارك.عبد اللطيف النشار.العراقي بدر شاكر السياب.صالح جودت.طاهر أبو فاشا.محمد عبد المنعم خفاجي.ابراهيم عيسي.السعودي محمد بن علي السنوسي. السوري الدكتور زكي المحاسني. السعودي ضياء الدين حمزة. بل انضم إليهم الإسرائيلي روني سوميك بعدما حضر لها غناء »عودت عيني». ومن فرسان العامية أحمد فؤاد نجم وقصيدته الشهيرة »كلب الست».بديع خيري.علي أحمد باكثير. د.سعيد عبده.العراقي إبراهيم الباجه جي.السوري أورخان ميسر. السوداني محمد المهدي المجذوب.اللبناني خليل مطران.العراقية وديعة جعفر.واللبناني جبران خليل جبران. ويبقي بين كل هؤلاء شاعر الشباب أحمد رامي صاحب السبق تأليفا لها وفيها:غزلا في صوتها وغضبا من صدها فرثاء لها؛ تغزل في صوتها فقال: خلقت آهة فكانت عزاء من هموم الحياة والأحزان وجرت دمعة فكانت شفاء للمعنّي ورحمة للعاني وترا مطرب الحنين أغنّا ولهاة كالخالص الرنان وثار لكرامته ولنفسه: من أنتِ حتي تستبيحي عزتي فأهين فيك كرامتي ودموعي وأبيت حران الجوانح صاديا أصلي بنار الوجد بين ضلوعي إني كسوتك من خيالي حلة وشّعت صفحتها بزهر ربيعي ..ثم هو أخيرا من يرثيها بعد رحيلها بدمع سخين وحزن روح وأنين: ما جال في خاطري أني سأرثيها بعد الذي صغت من أشجي أغانيها قد كنت أسمعها تشدو فتطربني واليوم أسمعني أبكي وأبكيها صحبتها من ضحي عمري وعشت لها أوف شهد المعاني ثم أهديها يامن أسيتم عليها بعد غيبتها لا تجزعوا فلها ذكر سيبقيها تبلي العظام وتبقي الروح خالدة حتي ترد إليها يوم تحييها