الإنبثاق ظاهرة كونية، نعيشها أينما يممنا وجوهنا ورغمها لانكاد نري لها أثراً في أفكارنا وسلوكنا ورؤانا، ذلك أننا نأخذ الأمور علي عجل ونعيش علي حواف الظواهر، نغادر كتاب الحياة المفتوح إلي حيث الهوامش والهوامل والعناوين الباهتة. وهنا تكمن المفارقة. الانبثاق سر من أسرار الوجود والحياة، وهي ظاهرة أسس لها العلم الحديث واستجلي حقائقها، فمن العدم ينبثق الوجود ومن الجماد تنبثق الحياة، من أديم الأرض قدت أجسادنا، ومن الهيدروجين والأكسوجين تكون الماء »وجعلنا من الماء كل شئ حي«، ومن النيتروجين والفوسفور والسكر تكونت شفرة الحياة لتصنع الجينات وحاملات الصفات الوراثية في كل أجناس الأرض من زواحف وحشرات وأسماك وزهور ونبات وفراشات وطيور وحيوان وكائنات وبشر، إنه الإنبثاق بقدرة الخالق وإبداع الطبيعة وحقائق العلم وتجليات المعرفة، وهو ليس وقفاً علي العلم وحده وإنما له إرهاصاته وتجلياته في السياسة أيضاً، وما الثورة المصرية الناشئة إلا نموذج حي علي هذه الظاهرة، فمن رحم المعاناة والضياع والاستبداد والفساد والظلم والتخلف والعدم والفشل، من أنقاض دولة وعناد بشر انبثقت الثورة تروم الحياة وتنشد العدل والحرية لوطن جديد ودولة ناهضة، نأمل أن تستوعب كل التيارات وكل الأفكار وكل الفرقاء ليؤسسوا معاً دولة مدنية ديمقراطية تأخذ بمعطيات الحداثة وتستهدف التقدم والنهضة. من الشعر انبثقت الموسيقي والجمال والبهجة وتفاعلت الأفكار والرموز لتكون حالة من التوهج والألق تشف عن روح الشاعر وخبيئة ذاته في رحلة البحث عن الخلاص والتوحد مع قيمة الإنسان في عذاباته وأمنياته، بالشعر ينبثق عالم جديد في رحلة بحث عن فكرة الوجود ومعني الحياة وخلاص الروح ومتعة النفس وقيم الجمال وتأمل الواقع وإعادة إنتاج عالم جديد يلبي احتياجات الشاعر والمتلقي ولو إلي حين، من الشعر انبثقت فكرة الوجود الموازي للإنسحاق والتشظي والعدم فتوحد الانسان بالانسان واستقوي وخرج يعيد بناء عالمه وربما خرج إلي طريقه يصنع الثورة ويحرر الإنسان من إسار الواقع وخطايا الرتابة والكآبة ومشكلات الحياة. من الشعر تنبثق روح الثورة وإرادة التغيير فتعبء الوجدان وتشحذ الهمم وتخلق بالخيال واقعاً جديداً عله نموذج العالم المنتظر، وأقرأ معي في قصيدة نزار قباني "متي يعلنون وفاة العرب" إذ يقول: أحاولُ منذ الطُفولةِ رسْمَ بلاد تسمي مجازاً - بلاد العرب - تُسامحُني إن كسرتُ زُجاجَ القمرْ... وتشكرُني إن كتبتُ قصيدةَ حبٍ وتسمحُ لي أن أمارسَ فعْلَ الهوي ككلّ العصافير فوق الشجرْ... فأفرشَ تحتكِ ، صيفا ، عباءةَ حبي وأعصرُ ثوبكِ عند هُطول المطرْ... رَحَلتُ جَنوبا...رحلت شمالا... ولافائدهْ... فقهوةُ كلِ المقاهي ، لها نكهةٌ واحدهْ... وكلُ النساءِ لهنّ - إذا ما تعرّينَ- رائحةٌ واحدهْ... وكل رجالِ القبيلةِ لا يمْضَغون الطعامْ ويلتهمون النساءَ بثانية ٍ واحدهْ. أحاول رسْمَ بلادٍ تُسمّي - مجازا - بلادَ العربْ سريري بها ثابتٌ .. ورأسي بها ثابتٌ لكي أعرفَ الفرقَ بين البلادِ وبين السُفُنْ... ولكنهم...أخذوا عُلبةَ الرسْمِ منّي. ولم يسمحوا لي بتصويرِ وجهِ الوطنْ... أحاول - مذْ كنتُ طفلا، قراءة أي كتابٍ تحدّث عن أنبياء العربْ. وعن حكماءِ العربْ... وعن شعراءِ العربْ... فلم أر إلا قصائدَ تلحَسُ رجلَ الخليفةِ من أجل حَفْنةِ رزٍ... وخمسين درهمْ... فيا للعَجَبْ!! هكذا تحدث نزار شاعراً وكأنه يرسم بشفرة موسي حاد آلام وطموحات الناس في بلاد العرب وتناقض الواقع والحلم ومفارقة السياسة لمعني الوطن، وماذا كانت النتيجة؟ في كلمة واحدة.. الثورة، وهي فعل تراكمي يختمر في عمق الزمن لينبثق فعلاً ثورياً يغير الواقع ويعيد تأسيس عالم جديد. هكذا فعل نزار كما آلاف من شعراء العرب ليبزغ فجر انتظرته الجماهير طويلاً ثم خرجت لتفرض واقعه وتراهن عليه. وهكذا من الشعر تنبثق الثورة ويتحرر الإنسان. والثورة في الشعر بشري وطموح وتسامي وعطاء ودأب. في قصيدته "غرسة الزيتون" يتحدث نجيب سرور عن إنبثاق الثورة كما شتلة الزيتون تنبت من أحشاء الصخر طالعة تعانق الحياة وتصنع السلام وتبشر بالمحبة والنماء، يقول لصاحبته: إنظريها تخرق الصخر وترنو كابتسامة غرسة الزيتون كالطفل نقاء ووسامة كالندي كالحب كالحلم الذي يصدق مرة بعد أعوام من العلقم مرة. قال هذا في ستينيات القرن العشرين لتفور الثورة في يناير بعد عشرات السنين، لكنها من أسف تخرج ناضجة راقية عفية فتتلقفها أياد خفيه تذهب بها بعيداً فتستحيل بطلاً أسطورياً يصارع غوائل المخلوقات وعجائب الدنيا من أجل التحقق والخلاص، انبثقت الثورة وعليها انفتح عالم الانتهازية المسحور بكل الأفاعي وكل الكواسر وكل الذئاب المتلمظة لقنص الفريسة لتروغ بها وحدها بعيداً عن ضوء النهار، تحاول سحبها لأسدال ليل بهيم تعشش أفكاره في الأمس ولاتتفتح زهوره إلا علي أعتاب ماض سحيق يحاولون جر الثورة إلي غياباته. ولاأمل إلا في سفينة نوح حيث لاعاصم اليوم للثورة إلا من رحم ربي، هو وحده الذي يقيض لها من أبنائها البررة من يرسوا بها في مرفأ أمين حيث، كما يقول نجيب سرور: يموت من يموت ويغرق الذين يغرقون فنوح لا يلوح مرتين وإنما الخلاص للذين يركبون.