رانيا.. دخلت احدي المجلات الاسبوعية من أوسع الأبواب.. كارت توصية من نائب رئيس الوزراء ورغم أن رئيس مجلس ادارة المؤسسة - حينئذ - كان يرفض مبدأ الوساطة.. إلا أنه لم يكن يستطيع أن يرفض طلبا لصاحب الكارت خاصة أن رانيا كانت تمتلك كل مؤهلات النجاح في بلاط صاحبة الجلالة.. تجيد ثلاث لغات إجادة مطلقة.. جميلة.. أنيقة.. كما أنها المحررة الوحيدة التي تمتلك سيارة من طراز فريد ويفوق ثمنها أضعاف ثمن السيارة التي يركبها كبار المسئولين بالمجلة! .. وأصبحت رانيا بين عشية وضحاها حديث الصباح والمساء في أروقة وصالات ومكاتب المجلة.. اعتقد الجميع انها سوف تهدد عرش جميع الموهوبين، وتسحب البساط من تحت أقدام الحسناوات اللاتي كانت لهن حظوة ومكانة وكلمة مسموعة!.. لكن سرعان ما بدأت الأسطورة الجديدة تنهار وتتلاشي وتتكشف تفاهتها رغم صدور أسرع قرار تعيين ربما في تاريخ المؤسسة الصحفية الكبيرة فقد تم تعيينها بعد اسبوع واحد من تدريبها علي يد نائب من نواب رئيس التحرير كان يطلب إعادة صياغة الموضوعات التي يكلفها بها حتي يثبت لرئيس التحرير أن »البنت موهوبة» وتمتلك ناصية الكلمة.. الكل كان يتصور أن إرضاء نائب رئيس الوزراء سوف يجلب لهم السعادة والترقي وينالون من خلاله الرضا السامي! استمرت رانيا في المجلة الاسبوعية عاما واحدا، ومثلما كانت صاحبة أسرع قرار تعيين، كانت صاحبة أسرع استقالة، قدمتها بإرادتها الكاملة بعد أن فشلت في الاندماج داخل المجتمع الصحفي، فهي لا تنسي أبدا أنها بنت ذوات، وتعتبر العمل الصحفي الميداني إهانة!.. كانت تري زملاءها من العامة والسوقة وتسخر من ملابسهم وتتندر بزحام الأتوبيسات حينما يبرر أحدهم تأخيره أو الإرهاق الذي أصابه في رحلة الوصول إلي الجريدة.. ورفض زملاؤها أن تعاملهم بكبرياء.. وكانوا هم - أيضا - يسخرون من حديثها عن بابا وماما وأونكل وطنط.. وحمام السباحة وشلة النادي وشاليه المنتزة وذكرياتها في رحلات الصيف إلي باريس والشتاء في أسوان!.. نعم كانت تجيد ثلاث لغات، لكنها كانت تتحدث العربية بركاكة!.. ثقافتها غير محدودة في الأفلام الغربية والموسيقي الأوروبية وحفلات الديسكو.. لا تفهم المجتمع المصري أو العربي ولا تريد أن تفهم!.. فشلت في أن تحصل علي خبر واحد أو أن تكتب موضوعا أو تجري حوارا.. ومع هذا طلبت لنفسها مكتبا مستقلا حتي تبتعد عن رائحة علب الكشري وسندوتشات الفول والطعمية التي يطلبها المحررون من باب عدم إضاعة الوقت!.. لكن رئيس مجلس الإدارة فقد أعصابه وتشجع وصرخ في وجهها! مكتب لوحدك، أكيد انت مجنونة! .. وأشعل هذا الرد حماس أحد اصدقائي في المجلة فوقف في الاجتماع يخاطب رئيس مجلس الإدارة بجرأة حسده عليها زملاؤه وقال: • ياريس.. أتحدي أن تذكر لنا هذه الصحفية اسم وزير أو محافظ أو حتي مدير أمن القاهرة.. أتحدي أن تذكر لك مشكلة واحدة من مشكلات المجتمع المصري.. أو تكتب جملة واحدة دون خطأ لغوي.. أتحدي أن تذكر أمامنا اخوات كان أو إن.. أو تخبرنا عن اسم زعيم ثورة 1919.. أو اسم أي رئيس عربي حالي! ويبدو أن رئيس المؤسسة أراد أن يمرر الواقعة بسلام فضحك مع الضاحكين بينما انخرطت رانيا في البكاء.. وبدأت تشن ضد صديقي الحملات وتطلق الشائعات بدءا من هذا اليوم.. وذات يوم شاهدته رانيا أمام نقابة الصحفيين فنزلت من سيارتها وهات يا شتائم في صديقي الذي كان يحكي لي عنها كل ما يحدث منها داخل مجلتهما.. وجدت نفسي أتدخل وأهدئ من ثورة بنت الذوات التي تريد أن تصبح صحفية بكروت التوصية والانوثة الطاغية والفساتين المحزقة.. الغريب انها استجابت لنصائحي بأن تعد نفسها لتكون اعلامية بالاجتهاد وتعذر صديقي لأن الصحفي الموهوب لا يعترف أبدا بالصحفي المدعي !.. لكن لم تمض شهور حتي استقالت المدعية الحسناء واستراحت.. وأراحت! التقيت بها ثلاث مرات طوال حياتي.. المرة الأولي في اللقاء الذي تم امام نقابة الصحفيين!.. والمرة الثانية كانت في أحد أندية مصر الجديدة الشهيرة واستقبلتني بترحاب شديد رغم العداء الذي كان بينها وبين صديقي وأدهشني أنها تذكرتني بأسرع مما تذكرتها.. حكت لي انها تعشق قضاء معظم وقتها منذ الصباح الباكر سواء علي حمام السباحة أو حول مائدة حسناوات النادي!.. وأدهشني ترحيبها البالغ بي، ربما لكي تثبت للآخرين أنها كانت صحفية ذات يوم، والغريب انها اعترفت لي بأني كنت علي حق وخدمتها بنصائحي لها فبدأت تقرأ الصحف وتستمع لنشرات الأخبار وتتابع الكتب وتتعمق في مشكلات المجتمع المصري!. وسألتها عن حياتها فهمست لي قائلة: أنا اتجوزت واطلقت.. والأمومة لسة بدري لأني عايزة استمتع بشبابي! وانتهي لقائي بها سريعا.. ولكن بطلة العالم في إحدي الألعاب الرياضية من بنات النادي كانت تعرف رانيا جيدا، وإذا بها تفاجئني بأن رانيا تزوجت ثلاث مرات دون أن تنجب، كما أنها مشهورة بين عضوات النادي بلقب »خطافة الأزواج».. وهناك - أيضا - من يطلق عليها لقب »متعددة الطلقات» فلم تعد لها صديقات بالنادي سوي خمس نساء هن الجالسات معها حول المائدة وهي التي سعت إلي أن تطلق كل منهن من زوجها بأفكارها الهدامة ودفاعها عن الحرية المطلقة ورفع راية العصيان واعتبار أن طاعة المرأة لزوجها إذلال وعبودية! لم يشغلني الحديث عن رانيا، ففي حياة الصحفي أسماء ووجوه وأحداث قد تشغله بعض الوقت، لكنه ينساها معظم الوقت! بعد سبعة عشر عاما من لقائي الثاني بها.. كان اللقاء الأخير قبل ايام حينما كنت ذاهبا إلي زيمبابوي بدعوة كريمة من رئيس نادي الزمالك وافق عليها الكاتبان الكبيران ياسر رزق رئيس مجلس ادارة اخبار اليوم وخالد ميري رئيس تحرير الاخبار لتغطية مباراة لنادي الزمالك.. وكانت هي مسافرة إلي احدي الدول الافريقية.. فوجئت وأنا أحتسي القهوة في صالة السفر بمطار القاهرة بأصابع رقيقة تنقر علي كتفي.. استدرت.. كانت هي.. تذكرتها بعد جهد، فقد كان الإيشارب الأبيض يغطي شعرها الطويل الممزوج بالحرير والذهب!.. كانت كما هي.. كأنها في العشرينيات من عمرها لم يسجل الزمن علي وجهها الجميل أي بصمة.. أنيقة كالعادة.. لكن لمحت في نظراتها انكسار البطل المهزوم.. كان متبقيا علي موعد إقلاع الطائرة ساعة وبضع دقائق.. دعوتها لفنجان قهوة جلست وهي تضع حقيبتها فوق المائدة ثم همست قائلة: هذه آخر مرة سوف تشاهدني فيها.. سألتها كعادة المصريين عن احوالها فردت بابتسامة باهتة : * أنا الآن اتصل بكل من أخطأت في حقهم وأطلب منهم العفو.. وعندما رأيتك الآن تذكرت خطئي في حق صديقك ووجدتها فرصة أولا لأن تطلب منه ان يسامحني لأني عايرته ذات يوم امام الناس بفقره وثانيا هي فرصة للحديث معك! أري أمامي إنسانة مختلفة! الحمد لله.. حياتي كلها كانت مرتعا للشيطان.. كنت أمتلك المال والجمال والعلاقات وقوة التأثير في كل من حولي.. أخطائي وخطاياي سر بيني وبين الله.. افتريت علي أزواجي الثلاثة وكان كل منهم رجل تتمني أي امرأة تراب قدميه!.. خربت بيوت.. لكني لم أفق إلا حينما ذهبت إلي المستشفي لزيارة صديقتي فريدة وهي تحتضر.. فوجئت بها تدعو وترفع يدها إلي السماء بمجرد أن رأتني وتطلب ألا يسامحني الله!.. صديقات النادي علمن بالواقعة.. ابتعدن عني.. وجدت نفسي في النهاية منبوذة.. لم ينفعني مال ولا جمال ولا علاقات. إلي أين أنت ذاهبة؟! أولا إلي الدولة الافريقية التي يعمل فيها أخي وقد انتهي عقده هناك ثم أعود معه إلي السعودية بعد ان حصل علي عقد عمل خيالي في الارض المقدسة.. طبعا أنت لا تعرف أن أخي يعمل في افريقيا منذ عشرين عاما ومتزوج من سعودية.. وكان يتبرأ من تصرفاتي وسلوكي ولهذا كان يرفض زيارة مصر، وفي الشهور الأخيرة اتصلت أنا به وأخبرته بأنني منهارة وأفكر في الانتحار.. نزل علي أول طائرة ومعه زوجته وأولاده وشقيق زوجته.. احتواني الجميع ومسحوا عني دموعي.. كنت صريحة معهم إلي أبعد حد.. وفوجئت بعد يومين فقط - بأن أخي يخبرني بما لم يخطر لي ببال.. شقيق زوجته السعودية طلب يدي، وطلب أن أعيش معهم في الرياض بعد عودتي معهم من افريقيا.. وجدت نفسي أوافق علي الزواج دون تردد لكني وضعت شرطا واحدا.. أن يكون سكني في مكة.. ووافق الرجل فوعدته أن أكون خادمة له! أنت تقولين عن نفسك خادمة؟! نعم.. إبليس موعده النار.. لكن شياطين الإنس هل تعتقد أن لهم توبة؟! هذا مؤكد طالما بقيت الروح في جسد بني آدم.. إن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به. إذن لا تندهش من أن أكون خادمة للرجل الذي سأعتذر لكل أزواجي السابقين في شخصه! مازلت عنيدة؟ أبدا.. من أين جاءك هذا الانطباع.؟ لأنك تزوجت بشرط.. رغم أن عريسك لم يضع أي شروط؟! لم أطلب سوي سكن في مكة.. أريد أن أكون قريبة من الحرم.. ومعظم وقتي سيكون في خدمة زوجي وباقي الوقت سأكون علي باب الله.. في الكعبة..! أنا واثقة من أن الباب سينفتح لي ذات يوم!.. ولن أرجع إلي مصر ثانية.. أريد أن ابتعد عن كل مكان يذكرني بالماضي! وحان موعد إقلاع طائرتي..! صافحتها.. وتحركت انا خطوات للأمام ومع كل خطوة التفت اليها كأني لا أصدق أن رانيا التي كانت رمزا للكبرياء صارت علي هذا التواضع بينما جلست هي تنتظر طائرتها وهي تلوح لي بيدها.. وكنت أتمني لو طال اللقاء.. لكن سرعان ما ارتفعت بي الطائرة وراحت تحلق بين السماء والأرض فأغمضت عيني لأري رانيا مرة أخري.. لكن في شريط الذكريات.. وبين الجفون اتخيلها تطوف بالكعبة وتتمسح ببابها بينما دموعها يجففها اشعاع دافئ من السماء ومن يطرق باب الله لابد أن ينفتح له ! عندما بكي عبدالناصر الصحافة في العالم الثالث لا تقترب من الحياة الخاصة للزعماء والرؤساء باعتبارها من الممنوعات خاصة في الستينيات من القرن الماضي.. أما اذا بكي الرئيس في مناسبة ما فإن اللقطة تكون محظورة تصويرا وكلاما!.. وفي لقاء مسجل لي مع كبير الياوران الاسبق صلاح الشاهد قبل رحيله حكي لي قصة اللحظات التي بكي فيها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وقدم لي نص الكلمات التي انتزعت الدموع من عين الزعيم.. كلمة ألقاها السفير السوري في مصر في حفل تقديم أوراق اعتماده بعد انفصال سوريا عن مصر، في بداية الستينيات.. وكانت أول مرة في تاريخ المراسيم والبروتوكولات التي يبكي فيها رئيس الدولة وهو يستمع إلي كلمة سفير أثناء تقديم أوراق اعتماده.. بكي عبدالناصر وسمع الحاضرون صوت بكائه فبكوا جميعا.. وبكي معهم السفير! وبعد انتهاء المراسيم طلب عبدالناصر صورة من كلمة السفير السوري د. سامي الدروبي.. وظل يحتفظ بها حتي أنفاسه الأخيرة! لقد كان عبدالناصر يعتبر سوريا عشقه الأول والأخير.. وكان حلم الوحدة المصرية السورية أحلي أحلامه.. وبلغ قمة سعادته حينما أهداه القدر حلم الوحدة في صينية الواقع.. إلا أن الوحدة سرعان ما تبددت.. وانفصلت الدولتان.. وجاء السفير السوري في ابريل 1967 بعد جفاء سياسي دام ست سنوات بين البلدين.. جاء ليقدم أوراق اعتماده سفيرا للجمهورية السورية بعد الانفصال.. وقال في كلمته التي أبكت عبدالناصر من أعماقه: سيادة الرئيس: إذا كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم مستشرفا الرجولة والبطولة فإنه ليحز في نفسي أن تكون وقفتي هذه كوقفة أجنبي.. كأنني ما كنت في يوم مجيد من أيام الشموخ مواطنا في جمهورية أنت رئيسها.. إلي أن استطاع الاستعمار متحالفا مع الرجعية أن يفصم عري الوحدة الرائدة، في صباح كالح من أصباح خريف حزين يقال له 28 أيلول.. صباح هو في تاريخ أمتنا لطخة عار ستمحي ولكن عزائي عن هذه الوقفة التي تطعن في قلبي يا سيادة الرئيس، والتي كان يمكن أن تشعرني بالخزي حتي الموت.. أنك أنت تطل علي التاريخ فتري سيرته.. وتصنعه صنع أبطال، قد ارتضيت لي هذه الوقفة. تسلم الرئيس أوراق اعتماد السفير وقد عجز لسانه عن النطق.. وانشغلت عيناه بالبكاء.. ثم سلمها إلي صلاح الشاهد كبير الأمناء.. ونظر إلي باقي الواقفين، علي صبري والفريق سعد الدين متولي كبير الياواران، فوجدهما قد انخرطا أيضا في البكاء.! عن المرأة قالوا..! تعلمت المرأة من الحية... الرقص، والغدر، وطول اللسان! لو بحثنا عن ( عرش ) تطلبه المرأة لوجدناه الأمومة.! الرجل لا ينسي أول امرأة أحبها،، والمرأة لا تنسي أول رجل خانها! أحسن طريقة لتجعل امرأة تغير رأيها هو أن توافق عليه ! المرأة بلا فضيلة... كالوردة بلا رائحة! آخر ما يموت في الرجل قلبه، وفي المرأة لسانها! أحلي الكلام ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَي تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 10 - 13].