لا استطيع أن اصدق أن عاما كاملا مر علي رحيل أغلي الناس وأحب الناس وأكثرهم عطفا وحنانا ورأفة بخلق الله. رحل الولد الشقي السعدني الكبير ولكن ما أعظمها الذكريات التي حفرها في قلوب الناس وعقولهم وياسبحان الله حتي أصغر أحفاده وأقلهم حظا سيف الذي جاء إلي الحياة بعد ان نالت الكوارث من نفس الولد الشقي و أحاط به الحزن واستبد به الألم فاستسلم للمرض وهكذا حرم سيف الصغير من نبع حنان لا مثيل له وبئر لم يكن لها أن تنضب من الحب ومع ذلك فإن سيف الذي كان يستعين علي المشي بمشاية الاطفال كان بمجرد ان يصل إلي بيت جده يزحف بالمشاية حيث غرفة جده التي كانت أشبه بغرفة رعاية مركزة صغيرة ولم يكن سيف يدع السعدني الكبير يهنأ بالنوم فكان يجذبه من ملابسه أو يمسكه من أصابعه فإذا لم يستجب كان يتسلق سرير جده ويصفعه علي وجهه حتي ينتبه له وكانت هذه اللحظات هي اسعد لحظات السعدني الكبير في محنة المرض فكما استسلم للمرض كان مستسلما لسيف يفعل معه ما يشاء وتحول السعدني ملك مملكة الكلام إلي مستمع لحكايات وحواديت حفيده الصغير والتي كانت تنتهي بسؤال من الصغير للجد.. ايه رأيك بقي؟! وكان السعدني يستجمع كل قواه ويحرم صدره من هواء التنفس لكي يستخدم هذا الهواء الذي هو وقود الصوت لكي يرد علي سيف حلوة قوي وكنا دائما ما نجلب له سيف لكي يجبره علي الكلام وقد كانت الجلطات التي استباحت عقله قد عطلت لغة الكلام عند سيد الكلام بلا منازع وملك ملوك السخرية.. ان كل الأمكنة وكل الأزمنة التي عشناها جميعا سواء الاصدقاء والأحباء وأسرة الولد الشقي لم تغب لحظة واحدة عن الأذهان والعقول بين الحين و الآخر احتضن السعدني عبر كتابه العبقري الذي هو أجمل ما سطر الإنسان من سيرة ذاتية الولد الشقي فأضحك من أعماق القلب ويحدث النقيض فأحزن لدرجة انني اشعر ان القلب يبكي حال السعدني وهو يروي أحلامه البريئة في الطفولة عندما كان يجمع الأوراق واعواد الخشب ويضع عليها الخبز وهو يخيل إلي نفسه أنه يشوي لحما وحماما وفراخا وعلي الرغم من أنه كان لا يشوي سوي الخبز فكان يقول انه كان يجلس علي رصيف بيت عم حنا المجاور لبيتهم ويتناول الخبز بسعادة شديدة والشئ الغريب ان هناك من كان يحسد الولد الشقي علي وجبته الأورديحي!! منذ رحل الولد الشقي طيب الله ثراه ولا يكف سيف الصغير عن السؤال وعن البحث في كل أركان البيت عن السعدني الذي غاب ولم يفهم الصغير سيف حتي هذه اللحظة ما هو الموت ولذلك فهو يحلم بان يلتقي السعدني بالسعدني في الإسكندرية أو في شقته المتواضعة في لندن فالموت عند الصغير سيف هو سفر إلي مطار آخر سيظل يجري خلفه حتي يدرك معناه في تلك اللحظة سيلتقي سيف وابناء جيله بما تركه لنا السعدني من نهر الذكريات في الولد الشقي وابن عطوطة والطريق إلي زمش والموكوس في بلاد الفلوس والسلوكي في بلاد الأمريكي وأمريكا ياويكا وملاعب الولد الشقي ومسافر علي الرصيف ومسافر بلا متاع وحكايات قهوة كتكوت وساعتها سوف يدرك الصغير سيف أي مرتقي ارتقي عندما كان يتسلق السرير ليصعد ويجلس فوق صدر الولد الشقي الحكاء العظيم الذي تحول مع حفيده الأصغر إلي مستمع اعظم ان الاحزان ايها الوالد غير المسبوق في عالم الأبوة، والصديق الذي اهدتنا إياه الأقدار.. أقول أن الأحزان تغلف حياتنا فقد ذهبت بكل متع الحياة وما فيها من جمال.. غاب الفرح وتحولت الضحكات الصافية إلي ذكري عزيزة ولايزال الجميع من أول الحبيبة الغالية أم أكرم أي هالة التي صاحبتها طوال عشرين عاما في رحلة البحث عن علاج وأمل و.. أمل التي اطلقت عليها لقب السفيرة وعاملتها بدبلوماسية فائقة عندما تبينت منذ صغرها أن لها شعورا مرهفا فلم تطلها سخريتك المشعة وحنان التي كانت نتوءا خرج منك والاحفاد الذين نهلوا من نبع الحنان محمود الروبي ومصطفي ومريم ومحمد واكرم البزاوي الذي قلت انه آخر عنقود الاصدقاء ومنة الله ومحمود السعدني الصغير وحسام وسيف والعم الغالي صلاح الذي كنت تعده أول من رزقت من الابناء.