»الإسماعيلية الخديوية» التي أنشئت بالتزامن مع قناة السويس، واحدة من مدن القناة التي ظلت لعقود تحتفظ بهويتها التاريخية وطابعها المميز عن باقي المدن المصرية. قبل عام 1862 كانت المدينة عبارة عن واحة خضراء أطلق عليها »قرية التمساح» وعندما جاء الخديو اسماعيل واليا علي مصر اطلق عليها اسم الاسماعيلية عام 1863. ولكن المدينة لم تظهر بملامحها الحالية إلا في أواخر عام 1869 عندما اقيم حفل افتتاح قناة السويس بمنطقة نمرة 6 حالياً. ولحداثة نشأتها وارتباطها بقناة السويس وتواجد المقر الرئيسي لإدارة القناة بها بخلاف تواجد الجاليات الأجنبية التي هاجرت للعمل بمصر في ذلك الوقت، انتشرت بالمدينة العديد من الطرز المعمارية خاصة الأوروبية والتي تركزت بالكامل بالحي الأفرنجي حيث استوطن به أفراد الجاليات اليونانية والايطالية والنمساوية، بالاضافة الي الطراز الفرنسي حيث انشئت مجموعة من الفيلات تابعة للشركة العالمية لقناة السويس بحي النخيل وشارع محمد علي وانتقلت تبعيتها لهيئة قناة السويس منذ ما بعد التأميم الي اليوم، وكانت تسعي كل جالية في ذلك الوقت إلي بناء مساكنها وفقا لأحدث الطرز المعمارية في بلدانها. أما الحي العربي أو مايعرف حاليا بمنطقة »المحطة الجديدة»فكان مخصصا للمصريين الذين قدموا للعمل بالقناة وظهر بتلك المنطقة المباني المقامة علي الطراز العربي التي تم بناؤها كاملة من الخشب وتتميز بالمشربيات والفنون المعمارية العربية. يقول المهندس نصر أبوالحسن أحد أبناء الإسماعيلية المهتمين بتاريخ المدينة، أن الإسماعيلية منذ نشأتها لم يكن بها سوي حيين هما حي الافرنج وحي العرب بخلاف المنطقة القديمة المسماة حاليا بالبركة بجوار قرية أبوعطوة والتي اطلق عليها في الماضي قرية التمساح. ويضيف أن حي الافرنج تميز بتصميم وتخطيط معماري فريد من نوعه حيث يتواجد بقلب الحي ميدانان هما ميدان مصطفي كامل وميدان شامبليون يتوسطهما محور رئيسي وهو شارع السلطان حسين ويصل بينهم جميعا طرق صغيرة وإذا نظرنا إلي هذا التصميم من مكان مرتفع نجد أنه علي شكل وردة. أما حي العرب فقد تم إنشاؤه إلي هيئة شبكة من الطرق العمودية والأفقية فالطرق العمودية عرض شوارعها لا يتعدي 15 مترا أما الطرق الأفقية فشوارعها 20 مترا وكان ما يميز ذلك الحي هو أسماء الشوارع التي اتخذت من الأسماء الفرعونية شوارع آمون والكرنك والأهرام بخلاف الشوارع الصغيرة التي اتخذت أسماء قومية كمصر والتحرير وسوريا أما الحواري الصغيرة فقد أطلق عليها أسماء الله الحسني. ويضيف أبو الحسن أن هناك عددا من المباني التاريخية المميزة بالمدينة التي تعتبر أثرا تاريخيا لمرور 100 عام علي إنشائها منها المسجد العباسي أقدم مساجد المدينة والذي كان يعتبر بمثابة استراحة لقوافل الحجيج العابرة بالمنطقة للتزود بالمياه، بجانب مبني شركة قناة السويس والذي شهد أول تحرك لتأميم الشركة والذي ظل مقرا للحزب الوطني المنحل حتي قيام ثورة يناير ثم تمت اعادته لهيئة قناة السويس حيث اصدرت وزارة الآثار مؤخرا قرار بتحويله لمتحف إسلامي ولكن لم يتم التحرك الفعلي لترميمه حتي الآن. أما المباني التاريخية الأخري فهي للأسف تقبع حاليا تحت سيطرة بعض المسئولين الذين خصصوها استراحات لبعض علية القوم من المسئولين مع تخصيص البعض منها استراحات لهم ومنها قصر الخديو اسماعيل الذي بني علي طراز معماري فريد وهو حاليا استراحة لرئيس هيئة قناة السويس بجانب قصر الإمبراطورة أوجيني الذي أصدر الخديو إسماعيل قرارا بإنشائه ليكون استراحة للإمبراطورة الفرنسية خلال حفل افتتاح قناة السويس وهو استراحة لمحافظ الإقليم. كما أن هناك مباني تم هدمها بالكامل وهي للأسف لن يمكن تعويضها كمبني قسم شرطة البستان الذي شهد معركة الشرطة في 25 يناير 1952 وتم بناء مديرية أمن الإسماعيلية علي موقعه القديم في الوقت الذي كان يمكن الحفاظ علي المبني القديم. عدد كبير من أبناء الإسماعيلية من المهتمين بضرورة الحفاظ علي موروثها الجمالي والحضاري ومبانيها التاريخية بدأ يظهر لهم الكثير من الجهود والمساعي في هذا الشأن تقول د. دينا ياقوت إحدي المناشطات في مجال المحافظة علي المباني الأثرية : نحن نسعي حاليا لتشكيل جمعية أهلية من أبناء المدينة للمحافظة علي ماتبقي من جمالها وتاريخها القديم بعد حملة الهدم المتعمد لمحو آثار تلك المدينة الساحرة. تقول:لقد جذبت الإسماعيلية في الماضي العديد من الجنسيات المختلفة نظرا لتراثها المعماري الفرنسي الفريد حتي أن المدارس التي أنشئت في ذلك الوقت اتخذت اسماء فرنسية وايطالية ويونانية يرددها أبناء المدينة حتي الآن منها مدرسة الراهبات الفرنسيسكانيات اليونانية ومدرسة سان فانسو دي بول. كما اطلق علي الإسماعيلية مدينة داخل حديقة نظرا لتميزها بالمساحات الشاسعة من الحدائق حتي إن كل منزل كان يضم حديقة منفردة له، بخلاف حدائق الملاحة الشهيرة التي كان يطلق عيها les jardins francais وهي بالمناسبة كانت تضم بحيرة صناعية كبيرة وجسورا مبنية من جذوع الأشجار. وتضيف ياقوت أن هذا كله أصبح من الماضي فبعد هذا التنوع المعماري الفريد الذي كان يميز الإسماعيلية حتي عن مثيلاتها من مدن القناة، لم يتبق منه سوي القليل الآن فبعد مغادرة الأجانب للمدينة وبيع ممتلكاتهم للمصريين من المحافظات المجاورة ظهرت حملة لهدم تلك المنازل لإنشاء الأبراج الخرسانية تحقيقا للكسب المادي الكبير. وتشير إلي أن الإسماعيلية تعيش حاليا وضعا خطيرا فالبنية الأساسية لا تقدر علي تحمل الزيادة الكبيرة في الوحدات السكنية كما بدأت شوارعها تعاني من الزحام الشديد فبدلا من التوسع خارج نطاق المدينة أصبح التوسع حاليا داخل المدينة. وتؤكد د. دينا ياقوت ان أكثر ما يحزننا حاليا هو ما تتعرض له حدائق الملاحة من تشويه وتجريف أدي إلي فقدان ما يفوق 80% من المسطحات الخضراء بها وهي خسارة فادحة لكل من عايش تلك الحدائق. وتضيف ياقوت ان ما يدعو للاندهاش أنه عند هدم تلك العمارات القديمة يقوم المقاولون ببيع جميع ما يمكن استخراجه من أرضيات وابليكات وأرميد وحلقان الأبواب والإكسسوارات القديمة لبيعها لكبري المطاعم والفنادق التي تعيد استخدامها وبالمناسبة فإن المقابل المادي للبيع يفوق ثمن أرض العقار الذي يزال. أمل كمال حبيب واحدة من سيدات الإسماعيلية اللاتي قمن بتدشين صفحات علي مواقع التواصل الاجتماعي للمحافظة علي تراث المدينة تقول ان المدينة تضم العديد من العقارات والفيلات التي تمثل ثروة حقيقية فمنزل فرديناند ديلسبس صاحب امتياز حق حفر قناة السويس يمثل وحده قيمة تاريخية للمدينة فمازال منزله يضم كافة متعلقاته الشخصية وأدواته بخلاف الطراز المعماري الفريد للمنزل الذي تحافظ عليه هيئة قناة السويس حتي الان بخلاف عدد من العقارات التي للاسف تواجه بمفردها دون تدخل أي مسئول حملة ازالات. تضيف: لقد قمت بالاتصال بهيئة التنسيق الحضاري بالقاهرة للوقوف علي امكانية وقف تلك الحملة من الازالات ولكن للاسف لم نستطع القيام بأي اجراء نحو ذلك كما يقف المسئولون عاجزين نحو الحفاظ علي ما تبقي من آثار معمارية. المهندسة سارة هشام الحاصلة علي بكالوريوس هندسة معمارية من جامعة De Montfort بمدينة فلاستر البريطوانية تقول إنني من أبناء الاسماعيلية وقضيت بها معظم فترات طفولتي حتي انتهاء الدراسة الثانوية وانتقلت بعدها لانجلترا للدراسة وهناك تخصصت في اعادة استخدام المباني القديمة وهو تخصص رائج هناك نظرا للكم الهائل من المباني المعمارية القديمة التي تمثل مختلف العصور وهناك لا يتم هدم أي من تلك المباني بل تتم إعادة استخدامها بما يحقق عائدا ماديا مناسبا لأصحابها دون المساس بقيمتها التاريخية. تضيف سارة ان للإسماعيلية روحاً تختلف عن أي مدينة مصرية بفضل ما تضمه من مناطق كاملة تحكي حقبا تاريخية متنوعة، فحي الافرنج ومنطقة النخيل التي تتميز بالطابع الفرنسي تستطيع للوهلة الاولي ان تعرف قيمتها التاريخية أما المحطة الجديدة فمازال هناك بعض العقارات التي تتميز بالطابع العربي.. وتشير إلي ان اعادة استخدام المباني القديمة منتشرة بأوروبا حيث يتم عمل مسح شامل لجميع العقارات والمناطق المتواجدة بها وتحليل ما ينقصها من خدمات وكيفية الاستفادة من العقار سواء بتحويله لمكاتب إدارية للشركات للاستفادة من طرازه أو كفندق علي سبيل المثال.. وتضيف: انني قمت بالاتصال بصفة شخصية بمنظمة محطات للزمن المعاصر والتي تضم مجموعة من المتطوعين بمدن القناة يقومون بحصر جميع المباني واثرها التاريخي وينظمون عددا من الفعاليات الفنية والمعمارية لتسليط الضوء عليها والتوعية المجتمعية بأهمية تلك المباني.