غداة ثورة 30 يونيو، صدر بيان الأول من يوليو باسم القوات المسلحة، يعطي مهلة ثانية وأخيرة للرئيس الأسبق محمد مرسي مدتها 48 ساعة، للاستجابة لمطالب الشعب الذي خرجت جماهيره الغفيرة إلي الشوارع والميادين في كل أرجاء البلاد، تهتف بسقوط حكم المرشد. تضمن البيان فيما تضمن عبارة نحتها الفريق أول عبدالفتاح السيسي قبل ذلك بسنوات.. سمعها منه رفاق السلاح مبكراً، وسمعها زملاؤه ومرؤوسوه وهو يرقب إرهاصات ثورة 25 يناير، ويضيء إشارات الإنذار بدنوها، ويضع تلك النذر في تقرير شهير كتبه في تقدير موقف عن الحالة العامة للبلاد قبيل انفجار الثورة بتسعة أشهر كاملة. تلك العبارة سمعتها وغيري منه في الأسابيع الأولي التي أعقبت ثورة يناير، وكان بعضنا يلتقي اللواء أركان حرب السيسي لأول مرة. كان أكثر ما لفت انتباهنا في تلك اللقاءات أن القائد الشاب الذي يدير المخابرات الحربية، لا يتحدث عن الأمن بنفس الاستفاضة التي يتحدث بها عن العدالة الاجتماعية، ويتكلم عن حق طبقات الشعب الكادحة الصابرة، في أن تحيا بكرامة تحت شمس بلادها، بنفس القدر الذي يتكلم به عن مصر العظيمة التي يتمني أن تستعيد مجدها، وأن تسطر لنفسها تاريخاً جديداً في مستقبل قريب. كنت وكنا نخرج من لقاءاتنا مع القائد الشاب، ونحن نتنسم من حديثه ونبراته وإخلاصه ووطنيته الفياضة، عطراً أخاذاً فارقنا منذ حرب 1967. وأخذت نوازعي تراودني عن قلمي لأكتب عن هذا القائد وأحاديثه التي تكشف عن طراز جديد من القادة أبناء مدرسة الوطنية المصرية، ووصلت إلي نقطة وسطي أن أكتب عن الجنرال الشاب صاحب الرؤية والبصيرة والحلم دون أن أذكر اسمه.. وقد كان! • وفي بيان الأول من يوليو، سطر السيسي العبارة التي رددها في مجالسه الخاصة كثيراً، وسمعتها الجماهير في هذا اليوم لأول مرة: »إن هذا الشعب الكريم لم يجد من يرفق به أو يحنو عليه». وجدت الجماهير ذلك الرجل، يوم الثالث من يوليو، وتأكدت يوم السادس والعشرين من يوليو، واستدعته ليقود البلاد وهي تتطلع إليه كرجل الأقدار الذي ظلت تنتظره عقوداً طوالاً. لكن عبارة »من يرفق ويحنو»، تحولت إلي سلاح في يد أعداء الشعب من الإخوان وحلفائهم الذين ساءتهم تلك الرابطة الفريدة التي جمعت السيسي بالجماهير، فأخذوا يتحينون كل مناسبة، للنيل منها، وتصوير الإنجاز علي أنه سراب، والإصلاح علي أنه عقاب. وصارت العبارة مادة يلوكها الذين عاشوا يحتقرون الجماهير ويستذلون الكادحين، فحاولوا أن يقطعوا الطريق علي كل بادرة تعطي معني الرفق والتكافل الوطني، وحسبوا أن الحنو علي الشعب يمكن تطويعه ليصبح تهاوناً في حق الشعب ومال الدولة. علي النقيض.. كان هناك من يظن أن بيد السيسي المستحيلات الثلاثة عصا موسي وخاتم سليمان ومصباح علاء الدين، فيقدر في طرفة عين أن يغير الأوضاع ويبدل الأحوال. لم يكن بيد السيسي واحد من تلك المستحيلات، لكن كانت عنده حقائق أقوي، قادرة مع فروق التوقيت البشري، أن تصنع معجزات، وهي الحلم والرؤية والهمة وهذا الشعب العظيم. ربما لا يعلم كثيرون أن السيسي كان المحرك وراء قرارين لإصلاح حال الطبقات المتوسطة ودون المتوسطة والفقيرة، قبل توليه منصبه. القرار الأول صدر في سبتمبر عام 2013، وهو رفع الحد الأدني للأجور من 700 جنيه إلي 1200 جنيه وكان حينئذ نائباً أول لرئيس الوزراء ووزيراً للدفاع. وأذكر في ذلك الوقت، أن وزيراً بارزاً التقيت به بعد ساعات من القرار، وكان يستهول قيمة الزيادة، وأسرَّ لي بأن القرار لم يكن ليصدر، لولا إصرار الفريق أول السيسي. أما القرار الثاني فقد صدر في مارس 2014، وكان يمكن أن يرجأ لحين إجراء الانتخابات الرئاسية التي كان متوقعاً أن يفوز بها السيسي باكتساح، وكان يتعلق بزيادة معاش الضمان الاجتماعي بنسبة 50٪. حينما تولي السيسي المسئولية قبل ثلاث سنوات مضت، كان في يديه برنامج للعدالة الاجتماعية، يقوم علي رؤية شاملة اختمرت في ذهنه وصاغها فور أن لبي النداء وقرر الترشح للرئاسة، وتضمنتها ملفات »الحلم المصري» التي حوت برنامجه لمدة 4 سنوات. أذكر أنني كتبت كثيراً في أعقاب تولي الرئيس المسئولية، عن أفكار وتصورات رأيتها تسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، وأذكر أن الرئيس تفضل وشرح لي رؤيته اثناء رحلة علي طائرة هليكوبتر إلي مدينة الجلالة منذ 18 شهراً، وملخصها »سمكة لمن لا يقوي علي الكسب، وسنارة لمن يقدر علي العمل». العدالة الاجتماعية في نظر السيسي هي كوب ماء نظيف لكل مصري، مأوي كريم في منازل لائقة محاطة بالحدائق، والخدمات، والملاعب والمدارس، فرص عمل مناسبة للشباب توفر لهم مصدر الرزق، وتقيهم مذلة التعطل والبطالة، وتحد من معدل الإعالة داخل الأسرة فترفع مستوي معيشتها. هي توزيع الخدمات والمرافق بعدالة بين أقاليم الدولة، مع التركيز علي المناطق المهمشة والمحرومة. هي القضاء علي كارثة »ڤيروس سي» التي تنهش أكباد المصريين وتقتلهم بلا رحمة خاصة الفقراء ورقيقي الحال. هي أيضا عدم تصدير المشكلات لأجيال قادمة، لتتحول إلي أزمات تستعصي علي أي حلول. مع كل هذا.. كان الشاغل الأول للسيسي هو توفير الحماية لفئات اجتماعية معدمة. فأنشأ مظلة معاش »تكافل وكرامة» بعد شهور معدودة من توليه منصبه، بحيث يحصل كبار السن وعائل الأسرة ممن لا دخل لهم علي معاش شهري 350 جنيها، ويحصل المعاق في الأسرة علي نفس المعاش، وتحصل المرأة المعيلة التي تعول أطفالاً منتظمين في الدراسة علي معاش شهري يتراوح بين 325 و600 جنيه حسب عدد الاطفال. وفي مطلع هذا العام، تم ضم الأطفال اليتامي إلي هذه المظلة، ليحصل الطفل الذي يعيش مع أقاربه علي 350 جنيها شهريا حتي يبلغ سن 18 عاما. وابتداء من الشهر المقبل، ستزداد قيمة معاش تكافل وكرامة بمبلغ 100 جنيه لكل مستفيد، وستتسع مظلة المعاش لتغطي مليونًا و700 ألف أسرة، بجانب 1.7 مليون أسرة يغطيها معاش الضمان الاجتماعي. بنفس القدر كان أصحاب المعاشات أيضا موضع اهتمام من جانب الرئيس، فأمر في العام الماضي بزيادة الحد الأدني للمعاش التأميني من 375 جنيها إلي 500 جنيه، وزيادة المعاشات بنسبة 10٪ ثم قرر هذا العام زيادة المعاشات بنسبة 15٪ ورفع الحد الأدني للمعاش إلي 630 جنيها من يوليو المقبل. كانت بيوت الصفيح والعشش المحرومة من المياه والصرف والمنازل المنشأة علي حواف الهضاب أو سفوح الجبال والمهدد سكانها بالموت في كل لحظة، أو ما تسمي بالعشوائيات الخطرة، في قلب هموم السيسي واحتلت صدارة تفكيره. وبالفعل.. شرع في تنفيذ برنامج شامل لإنشاء 180 ألف شقة لائقة لسكان تلك العشوائيات، كانت باكورتها في »الأسمرات» وخلال عام واحد، لن نري هذه العشوائيات، وسيجد قرابة مليون مصري من سكانها لأول مرة بيتا، يحفظ كرامتهم، وينقل حياتهم إلي مستوي لائق. ويواكب الانتهاء من هذا البرنامج، اكتمال أكبر مشروع لإنشاء ما يزيد علي 600 ألف وحدة سكنية في مشروع الإسكان الاجتماعي، وتم بالفعل استلام 212 ألف وحدة منها في مختلف محافظات الجمهورية، وبحلول منتصف العام المقبل سيكون ما بين مليونين إلي 3 ملايين من أبناء الأسر المتوسطة ودون المتوسطة المصرية قد حصلوا علي شقق جديدة لائقة، في قلب تجمعات سكنية مجهزة بكل أنواع الخدمات. لم يكن من العدل بعد ثورتين، أن تحرم أسر مصرية من شربة ماء نظيف وهي تعيش علي ضفاف النيل أو تعيش أسر في القري محرومة من أبسط خدمات الصرف الصحي. لذا.. تم تدشين مشروع قومي طموح نجح في الوصول بمياه الشرب النقية إلي 96٪ من الأسر المصرية، وإدخال خدمات الصرف الصحي إلي 16٪ من القري المصرية بعدما كانت النسبة 10٪ منذ 3 سنوات، ورفع النسبة إلي 40٪ في غضون عامين. ليس هدفي في هذه المساحة، هو حصر ما تم في مجال العدالة الاجتماعية، سواء في التعليم أو الصحة أو الخدمات أو المرافق، ولا عدد المشروعات التي تم إنشاؤها لتوفير فرص العمل، سواء المشروعات القومية أو القلاع الصناعية الجديدة في سيناء وصعيد مصر، ولا إعادة سرد الجهود المضنية التي بذلت لمجابهة الجشع والقضاء علي الاختناقات في الأسواق وبعضها طبيعي ومعظمها بفعل فاعل. لكن يكفي أن أقول إن المشروعات القومية الكبري في مجالات الطرق والتشييد وإنشاء المدن الجديدة والموانئ والمطارات وغيرها، وفرت خلال السنوات الثلاث الماضية ثلاثة ملايين فرصة عمل، فتحت أبواب الرزق لأكثر من 12 مليون فرد من الأسر المصرية، بجانب ما توفره أساسا من بنية أساسية وبيئة ملائمة لجذب الاستثمارات، التي تستهدف منها زيادة معدلات تشغيل المصريين، وزيادة ايرادات الدولة بما يمكنها من الإنفاق علي خدمات التعليم والصحة وغيرها ورفع مستوي معيشة الأسرة المصرية. أما الإجراء الأكثر تعبيرا عن العدالة في تقديري، فهو حملة ال 15 يوما التي أطلقها السيسي ضمن حربه علي الفساد والظلم الاجتماعي، لإزالة التعديات علي أرض الدولة، واستعادة حق الشعب من لصوص الأراضي وواضعي اليد الذين ارتكنوا علي غيبة قانون وغيبوبة محليات وخراب ذمم، فاستولوا لأنفسهم ولأبنائهم علي ما هو من حق كل المصريين. أعاد السيسي بهذه الحملة التي ستتواصل حتي تنجز مهمتها بالكامل، الاحترام لسيادة القانون والهيبة للدولة والمهابة للقرار وأرسي المبدأ الذي لابد أن يسود في بلد الثورتين وهو أن أرض الدولة لابد أن توزع ثمارها بعدالة علي الجميع، وأن مال الشعب ليس نهباً لطائفة من المغامرين والمتنفذين والفاسدين. هناك من يقول إن كل ذلك ملموس ومقدَّر، والقائلون منصفون وهناك من يقول إن كل ذلك لايزيل وطأة الغلاء ولا يبدد المعاناة التي تعيشها غالبية الأسر المصرية، والقائلون محقون. وهناك من يتساءلون أين الرفق والحنو مع الإجراءات الاقتصادية الصعبة كرفع سعر الكهرباء والوقود وتحرير سعر الصرف الذي أدي إلي ارتفاع أسعار السلع، وأصحاب السؤال معذورون، لأنهم لا يعرفون أن تلك الإجراءات الصعبة التي بدأت منذ عامين ضمن برنامج مدته 5 سنوات، تحمي -رغم مشقتها- من طريق أصعب ومصير مظلم.. لا يدركون أن من يغمض عينيه عن الإصلاح بدعوي الرفق والحنو، أشبه بمن يحجم عن تقديم العلاج لأحبائه من مرض عضال، بحجة أن الأقراص مُرة والحقن مؤلمة والشراب غير مستساغ! برغم ضرورات الإصلاح -الذي لا غني عنه- تستطيع الدولة إنقاذ الأجيال القادمة من ميراث دين يتفاقم، ولتقدر علي الوفاء بالتزاماتها في المعاشات والأجور، ولتتمكن من تطوير المرافق والخدمات لتحسين حياة المصريين.. لم يكن ممكنا أن تترك الفئات متوسطة الحال ومحدودة الدخل أسيرة لإجراءات اقتصادية صعبة وأخري مكملة، وأن توضع الأسر المصرية تحت طائلة الغلاء دون معاونة تخفف عنهم آثاراً مؤقتة لتلك الإجراءات في عام المصاعب الاقتصادية. من هنا صدرت قرارات الثالث من رمضان، لترفع المعاشات 15٪، وتزيد من قيمة معاش كرامة وتكافل، وتضيف علاوتين جديدتين، منهما علاوة غلاء إلي دخل العاملين بالدولة من الخاضعين وغير الخاضعين لقانون الخدمة المدنية، ليزداد بحد أدني من 130 جنيها وحد أقصي 260 جنيها شهرياً، ورفع حد الإعفاء الضريبي إلي 7200 جنيه سنوياً، بما يعني زيادة أخري في دخل العاملين. وأظن الأيام المقبلة ستحمل أخباراً سارة أخري في إطار حزمة تحسين أجور ودخول طبقات الشعب، وتخفيف وطأة الغلاء عنه، وزيادة نصيب الفرد من السلع في بطاقات التموين. ربما لا تمضي شهور كثيرة، حتي يلمس الجميع أن المسار العسير الذي نجتازه، هو الدرب الوحيد لبناء حقيقي للدولة التي نريدها والمجتمع الذي ننشده، وحينئذ سيعلم من لم يكن يعلم معني عبارة »أن يرفق ويحنو».