يأبي التاريخ إلا أن يذكرنا بما نغفل »أو نتغافل» عنه!! تأتي ذكري العاشر من رمضان هذا العام، متوافقة مع ذكري الخامس من يونيو.. لنكون أمام الحقيقة التي لا يريد لنا الأعداء أن تكون هي ما نستخلصه من دروس الماضي، وما نستهدي به علي طريق المستقبل.. هذه الحقيقة التي تقول إن هذا الشعب لا يقبل الانكسار، وأن هذا الوطن قد خلق ليكون عزيزا ومقاتلا ومنتصرا. يأتي العاشر من رمضان هذا العام مقترنا بالخامس من يونيو، فنتذكر أننا انهزمنا في يونيو قبل نصف قرن، لكننا لم نستسلم ولم ننكسر. في التاسع من يونيو كانت الملايين تخرج للشوارع ترفض الهزيمة وتعطي أمر القتال لمحو عارها. وبعد أيام كان جنودنا البواسل يبدأون رحلة الثأر من معركة رأس العش لتكتمل المسيرة بعد ست سنوات بالعبور العظيم. كان المفترض أن نطوي بالنصر صفحة الهزيمة، وأن يكون العبور العسكري في أكتوبر العظيم طريقا للعبور الشامل الذي ينقل مصر إلي نهضة تملك كل مقوماتها، وإلي أداء في كل المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية يتكافأ مع الأداء العبقري في حرب أكتوبر. لكن.. كان هناك -علي الجانب الآخر- من يخطط لسرقة ثمار النصر الذي تحقق، ومن يريد ضرب تحالف أكتوبر الذي انتصر، ومن لا يريد لمصر أن تقود الوطن العربي ليأخذ موقعه كقوة رئيسية تملك الثروة المادية والبشرية التي تؤهلها للتقدم والنهوض. وكان هناك من يسعي جاهدا لكي يظل الخامس من يونيو هو الحقيقة الأساسية في تاريخنا (!!) ولكي يؤكد علي الأكذوبة التي سخر كل امكانياته لترسيخها وهي أننا لسنا صناع نصر، بل نحن مخلوقون لكي نتلقي الهزائم التي يسعد بها الأعداء، ويصلي لها الخونة شكرا لله كما فعل الإخوان بعد 5 يونيو 67 (!!). علي مدي سنوات طوال، كان علينا أن نواجه في كل عام »مولد سيدي خمسة يونيو».. حيث يتباري أعداء الخارج، مع الخونة والعملاء، في التأكيد علي أن الهزيمة هي قدرنا، وأن الاستسلام لأعداء الخارج والداخل هو وحده الذي يبقينا علي قيد الحياة.. دون أن تسأل أي حياة هذه؟ ودون أن تكون أمامك الفرصة لتبصق في وجوه مزوري التاريخ، ولتؤكد علي الحقيقة التي تقول إن نصر أكتوبر هو جوهر الحقيقة فيما يتعلق بمصر التي تعرف جيدا كيف تظهر أفضل ما فيها عندما تواجه التحديات وتمر بلحظات تقرير المصير. وعلي مدي سنوات طوال، كان علينا أن نواجه التوسع في »مولد سيدي خمسة يونيو» ليشمل كل إنجاز وطني.. فحرب 56 هي هزيمة فادحة حتي وإن كانت نتيجتها أن استعدنا قناة السويس، وأن أنهينا كل وجود لاحتلال بريطاني جثم علي صدور مصر لأكثر من سبعين عاما!! وبناء السد العالي جريمة لأنه حرمنا من صيد السردين.. حتي وإن كان قد ضاعف الرقعة الزراعية وحمي مصر من مجاعات وفيضانات دمرت افريقيا لسنوات طوال (!!).. وحرب الاستنزاف كانت -عند هؤلاء- كارثة دفعنا ثمنها الفادح.. حتي وإن كانت هي طريقنا لبناء كتائب العبور وحائط الصواريخ وتحقيق معجزة إعادة بناء جيش مصر من نقطة الصفر ليكون جاهزا للثأر خلال أقل من ثلاثة أعوام!!
في إحدي جولات هذا الهجوم الشرس، كان علينا أن نواجه حديث الإفك عن بطولات جنودنا وتضحيات شعبنا أثناء السنوات الصعبة التي خضنا فيها حرب الاستنزاف ونحن نستعد للثأر العظيم. كان تحالف النفاق السياسي مع الخيانة الوطنية يمارس نشاطه بكل حرية، وكنت ممنوعا من الكتابة أكافح مع كل الكتاب الوطنيين لكي نرد علي الباطل، ولكي ننشر الحقائق في مصر والعالم العربي. ومازلت أتذكر اتصالا هاتفيا تلقيته في صباح أحد الأيام من مؤرخ العسكرية المصرية الحديثة اللواء حسن البدري يعلق فيه علي مقال كتبته في إحدي الصحف الاماراتية ضد محاولات تزوير التاريخ وتصوير الهزيمة كأنها قدرنا، وضد كتابات ذهبت إلي مزبلة التاريخ تهين كفاحنا في واحدة من أصعب الفترات التي مرت علينا، ونحن نعبر من هزيمة لا نستحقها، إلي نصر عزيز نحاول الحفاظ عليه والسير علي طريقه، ليكون أكتوبر -وليس يونيو- هو العنوان الدائم لمصر.. شعبا وجيشا. وطالت الحوارات بعد ذلك مع اللواء البدري، وكان له الفضل الكبير في توضيح الرؤية العسكرية لهذه الفترة المليئة بالتحديات في تاريخنا. وكانت الرؤية -باختصار ووضوح كاملين- أن ضربة 67 كانت بداية حرب طالت علي مدي ست سنوات، وانتهت بالنصر العظيم في عبور أكتوبر. ما حدث لنا هو ما حدث لدولة عظمي مثل بريطانيا في الحرب العالمية حين تلقت ضربة النازيين في »دنكرك» والعديد من المعارك، لكنها صمدت وقاتلت حتي تحقق النصر بعد سنوات. لم يقف تاريخ بريطانيا عند لحظة الهزيمة الأولي، بل توقف طويلا -ولم يزل- عند لحظة الانتصار الذي دفع فيه (ومعها كل العالم الحر) أفدح الأثمان لتهزم النازية. الفارق بيننا وبينهم.. أننا علي مدي أربعين عاما بعد حرب أكتوبر، نواجه محاولات مستميتة (من المتآمرين في الخارج ومن العملاء في الداخل) لكي يسرق لصوص الداخل ثمار انتصار المصريين في حرب قدموا لها كل التضحيات (!!) ولكي تنجح مؤامرات الأعداء ومحاولاتهم لتشويه الذاكرة الوطنية، ولتثبيت فكرة أن الهزيمة هي قدرنا »وخمسة يونيو هي الدليل» وأن ما فعلناه عبر معارك الصمود والاستنزاف وصولا إلي نصر أكتوبر.. ليس إلا خطأ تاريخيا يقوم الأعداء والعملاء معا بتصحيحه!!
نعم.. انهزمنا في الخامس من يونيو، لكننا رفضنا الهزيمة علي الفور، وبدأنا رحلة الثأر ونحن نعرف أن موازين القوي هي لصالح العدو بما لا يقارن، وأن ثمن تحرير الأرض واستعادة الكرامة سيكون كبيرا. لكننا كنا نعرف أيضا أن الكارثة الحقيقية هي أن نقبل الهزيمة وأن نخضع لشروطها. وكان الشهيد عبدالمنعم رياض يقول إنه لا حياة لمصر إلا بانتصار يمحو آثار الهزيمة، وأن كل طريق آخر ليس إلا طريقا لاغتيال روح مصر. وعلي مدي ست سنوات قدمت مصر ملحمة رائعة في الصمود أمام المصاعب ومواجهة كل التحديات. الشعب الذي خرج في التاسع والعاشر من يونيو يرفض الهزيمة ويطلب الثأر، قبل راضيا أن يدفع الثمن وأن يقدم التضحيات وأن يرفض كل محاولات بث الفتنة أو زرع اليأس.. والجيش الوطني بدأ البناء من نقطة الصفر ليخوض العمليات العسكرية بعد أسابيع، وليستكمل تجهيزه من خلال حرب الاستنزاف استعدادا للعبور العظيم. والدولة كانت تضع كل امكانياتها لتحقيق الهدف وتحرير الأرض والانتصار في معركة المصير. ومصر التي ظنوا أنها ستنهار بضربة يونيو، انتفضت لتستجمع قواها، ولتكتف حول قيادة عبدالناصر، ولتستجمع كل ما بنته علي مدي خمسة عشر عاما من عمر ثورة يوليو وتضعه في خدمة المعركة. لم تكن هناك موارد من القناة المغلقة أو من حقول البترول المحطمة أو من السياحة المتوقفة أو من تحويلات المصريين في الخارج. كان علي مصر أن تعيش وتبني جيشها وتستعد للثأر من عرق أبنائها في المصانع والمزارع. وأن يكون لديها جيش المليون مقاتل الذي يعتمد أساسا علي خريجي الجامعات الذين استطاعوا أن يخوضوا أول حرب إلكترونية في تاريخ العسكرية وأن ينتصروا فيها بجدارة. يصحح التاريخ بنفسه ما نواجهه من حملات تزييف الوعي علي مدي السنين. تأتي ذكري هزيمة يونيو مع ذكري الانتصار في العاشر من رمضان لنكون أمام ملحمة عظيمة من ملاحم نضال مصر في العصر الحديث. نتذكر.. في مثل يوم الغد »الخامس من يونيو»، قبل خمسين عاما، انهزمنا في موقعة تصور العدو أنها ستكون القاصمة. لكننا لم ننكسر. خرجت الملايين ترفض الهزيمة وتتمسك بجمال عبدالناصر قائدا وزعيما، وتصدر »أمر التكليف» بالثأر وباستعادة الأرض والكرامة. ونتذكر.. في مثل يوم الغد »العاشر من رمضان»، قبل أربعة وأربعين عاما، كان العبور العظيم لجيش مصر المنتصر، ولشعبها القادر دائما علي صنع المستحيل حين يواجه التحديات. كانت مرحلة صعبة. ست سنوات من النضال والتضحيات لكي تعبر مصر من الهزيمة إلي الانتصار. حرب طويلة ظن العدو في بدايتها أنه قادر علي فرض كلمته وكسر إرادتنا، وأدرك في النهاية أن مصر لا تنسي ثأرها، ولا تترك أرضها. ومع ذلك، فعلي مدي خمسين عاما تأتي الذكري فيقام »مولد سيدي 5 يونيو»، في محاولة لا تتوقف لزرع ثقافة الهزيمة التي أخذنا ثأرنا منها بحرب السنوات الست التي انتهت بالعبور العظيم في أكتوبر. في الغد يأتي اللقاء بين ذكري الخامس من يونيو، وذكري العاشر من رمضان، ليضعنا أمام جوهر الصراع في مصر والمنطقة. أعداؤنا يريدون أن يكون الخامس من يونيو هو المكتوب علينا علي الدوام. ونحن لا سبيل أمامنا إلا الطريق الآخر الذي بدأناه برفض الهزيمة في التاسع والعاشر من يونيو، ليقودنا إلي نصر أكتوبر »العاشر من رمضان». كل عام ومصر قادرة علي مواجهة الصعب وصنع المستحيل.
ليالي القاهرة.. بلا مسلسلات!! أعتقد أن هذا الموسم سيكون فاصلا في حكاية حشد المسلسلات الدرامية علي شاشات التليفزيون في رمضان بهذه الكثافة. زحام المسلسلات وتحولها أحيانا إلي فواصل درامية، وسط طوفان الاعلانات.. أصاب نسبة كبيرة من المشاهدين بالملل.. الشباب »وهو من أهم الفئات المستهدفة من دولة الاعلانات» يهربون إلي »الآي باد» أو إلي المقاهي. لو أن هناك عناية بليالي رمضان من جانب قصور الثقافة ومراكز الشباب والمسارح العامة والخاصة.. لاستعادت القاهرة الكثير من البهاء المفتقد. ولو أن هناك تفكيراً في انتهاز فرصة رمضان وبدء الاجازات الصيفية، لاستطاعت القاهرة جذب قطاع مهم من الاشقاء العرب للسياحة والاستمتاع بليالي رمضان مع عبق التاريخ وسحر الفنون والثقافة. لا مجال للمقارنة بين سحر القاهرة وغيرها من المدن المنافسة علي اجتذاب الاشقاء العرب للسياحة خاصة في ليالي رمضان. لكن السياح لا يأتون للفرجة علي المسلسلات في التليفزيون، ولا لمتابعة طوفان الاعلانات علي الشاشات الصغيرة، السياح يريدون مسارح مضاءة بنور الفن، وأوبرا يتزاحمون علي أبوابها لمتابعة نجوم الغناء والموسيقي.. وحفلات تنشر البهجة، ومستوي راق من الخدمات، وحملات لا تنقطع من أجل النظافة واحترام المرور. لا أعرف كيف سيكون شكل الشاشة الصغيرة في المواسم القادمة لكن المؤكد انها لن تشهد هذا الزحام في الدراما الضائعة في عالم الاعلانات. ولست متأكدا من تعلم الدرس واستعادة الحياة لليالي رمضان الجميلة في المسارح وقصور الثقافة ومتعة السياحة في قاهرة تجمع بين عبق التاريخ وجمال الحاضر. لكن علينا ان نسأل: هل يمكن وضع ذلك في حسابات المسئولين عن السياحة بجانب ترديد المعزوفة التي أصبحت أكثر مللا من مسلسلات التليفزيون واعلاناته وهي معزوفة السياح الروس وموعد عودتهم؟!! وهل نركز قليلا علي السياحة العربية بعائداتها الأفضل، وبما تنسجه من أواصر المودة، وبما تضخه من دماء في شرايين الفن في عاصمته العربية؟ أسئلة وخواطر يثيرها موسم الملل من طوفان الاعلانات التليفزيونية وما يتخللها من بعض الفواصل الدرامية والمقالب السخيفة، بينما أضواء المسارح مطفأة حتي إشعار آخر!1 آخر اليوميات للشاعر الجميل الراحل فؤاد قاعود: ضمايرنا ضفايرنا نجد لها ونطلع بيها جبال الحق لو دابت أخلاقنا هيا الدوبة لو تابت ما تنفع توبة والرقعة تبان!!