يظل »غزل البنات» إحدي روائع السينما المصرية علي مر العصور، حيث اجتمع فيه كل شيء جميل في عالم الفن.. موسيقي عبدالوهاب وصوته مع صوت ليلي مراد النادر، وعبقرية الريحاني في آخر أعماله السينمائية، واطلالة يوسف وهبي، ورشاقة السيناريو وخفة دم الحوار الذي كتبه بديع خيري والريحاني، والتوليفة الرائعة التي جمعها أنور وجدي مخرج الفيلم، وأيضا كاتب قصته كما تشير »تيترات» الفيلم وكل المراجع السينمائية. لكن قبل أيام نشر الناقد السينمائي الزميل العزيز طارق الشناوي رسالة من الدكتور وسيم السيسي، يقول فيها إن قصة الفيلم هي لأبيه وليست لأنور وجدي!! ويروي الدكتور السيسي ما حدث وهو أن والده كان استاذا للغة الانجليزية وناظرا لاحدي المدارس الكبيرة، وكانت تربطه وأسرته بأنور وجدي صلات عائلية، وانه قدم له القصة ورفض أن يكتب اسمه عليها حفاظا علي وقار المنصب رغم إلحاح أنور وجدي الذي أصر علي أن يتقاضي صديقه ثمن القصة وسجل ذلك في دفاتره الضريبية، ثم خضع لرغبة »الاستاذ» ووضع اسمه هو كمؤلف ومخرج للفيلم الشهير!! القصة بالصورة التي يرويها الدكتور السيسي تكررت بصور عديدة في السينما المصرية. هناك اسماء شهيرة تم وضعها كمشاركين في التأليف أو حتي كمستشارين لمجرد الاستفادة من شهرتهم. وهناك -علي الجانب الآخر- من فضلوا عدم ذكر أسمائهم رغم أدوارهم الأساسية في كتابة قصة الفيلم أو السيناريو أو الحوار.. لأسباب رأوها!! لكن الأمر يتعدي ذلك بكثير.. سواء في السينما أو الدراما التليفزيونية أو في ميدان الغناء. ولو انكشفت كل الأسرار لرأينا أن المبدعين الحقيقيين لنسبة كبيرة من هذه الأعمال الفنية لم توضع أسماؤهم عليها، بل ذهبت لآخرين. البعض لجأ لذلك مضطرا في أول الطريق ليجد مكانا بعد ذلك ينطلق منه ويكبر. والبعض لجأ لذلك بسبب الحاجة للمال، والبعض لم يجد ثغرة في وسط فني انغلق في بعض فتراته علي المشهورين وحدهم، فاضطر أن يمنح جهده لهؤلاء المشاهير.. لعل وعسي!! وفي الغالب فإن الموهوبين حقا يستطيعون أن يغادروا هذه المنطقة بسرعة. بعضهم يترك هذه الفترة وراءه وينطلق. وبعضهم يظل ينظر بحسرة إلي أعماله وهي تنتشر باسم غيره، كما قال المبدع الموهوب فتحي قورة وهو يعترف بأنه كتب أربعين أغنية باسم غيره، وأنه يبكي حين يسمعها.. رغم مئات الأغاني التي أبدعها بعد ذلك!! علي العكس من ذلك.. كان عمنا الراحل بهجت قمر يتسلم أوراقا لا روح فيها، فيمنحها من روحه ما يجعلها تنبض بالحياة، وتنشر البهجة والفرح، وتضيء المسارح بتحف الكوميديا. ولم يكن يهتم باسمه الذي غاب عن عشرات الأعمال المهمة. كان يكتفي بأن يصنع الفرح، وأن يحصل علي ما يجعله قادرا علي مواصلة الإبداع وصنع البهجة التي تجمل الحياة. وفي الطريق نفسه رأيت الفنان الجميل عبدالله فرغلي وهو يتحول إلي منقذ لأعمال فنية كانت تسير في طريق الفشل الذريع، لولا جهده وخبرته في تحويل »ورق» باهت إلي أعمال راقية مازالت ملء السمع والبصر حتي الآن، دون أن تحمل اسمه!! بل كان -لضيق الوقت- يحذف مشاهد عديدة من دوره في بعض المسلسلات التي يعيد صياغتها، حتي يجد وقتا للمهمة الأكبر وهي بث الحياة في أوراق ميتة. لتكون سعادته هي نجاح العمل الفني، وفرحه بأن يولد نجم جديد علي يديه. ولعل الفرصة تأتي لكتابة المزيد عن هذا الفنان الجميل الذي يدين له جيل كامل من نجوم الكوميديا بالكثير.
في كتابه الجميل »القديس الصعلوك» يروي صديق العمر الراحل العزيز يوسف الشريف صفحات من حياة الكاتب والشاعر والفنان عبدالرحمن الخميسي. وما أتوقف عنده هنا هو كيف استطاع هذا الطالب الفقير أن يرسل بعض قصائده لصحف العاصمة من المنصورة، وكيف كان نشر قصيدة له بداية لقهر فقره. وكيف كان -وهو مازال طالبا في الثانوية- يذهب إلي القاهرة أول كل شهر، ليقصد مقهي باب الخلق ومقهي الآلاتية في شارع محمد علي، ليبيع بعض أغانيه لكبار المطربين والملحنين هناك، ويعود للمنصورة ليسدد ديونه ويعيش في بحبوحة لآخر الشهر. وقد سمعت من الخميسي نفسه في منزله أثناء اغترابه في موسكو جانبا مما حققه العزيز يوسف الشريف بعد ذلك. روي لنا الخميسي »وكنت مع يوسف في رفقة استاذنا محمد عودة» انه كتب في هذه الفترة كل ما يحتاجه الفنانون في شارع محمد علي من اغان ومونولوجات واسكتشات فكاهية. وأن الشاعر أحمد مخيمر كان رفيقا له في هذا المجال. وحكي لنا الخميسي كيف جاء إلي القاهرة، وماذا عاني في بداية طريقه. وكيف هرب من مطاردة البوليس السياسي بعد أن أصبحت له توجهات يسارية. وكيف وجد ملجأ من المطاردة في بيت شاعر شاب أعطاه شقته في الاسكندرية ووفر له ما يعيش به.. وفي المقابل كتب الخميسي عشرات الأغاني باسم الشاعر، ثم كتب له ديوانا كاملا من الشعر، طبعه صاحبنا ثم ذهب للخميسي - بعد أن استرد حريته في التنقل - ليهديه الديوان ويطلب رأيه!! ولن أنسي مشهد الخميسي وهو يروي لنا كيف كان رد فعله وهو يقول لصاحبنا انه لم ير مثل هذه الوقاحة، وهو يري من يهدي إليه شعره الذي كتبه مقابل لحظات من الأمان!! ورغم ذلك فلم يكن الخميسي يحمل شيئا في قلبه من ذكريات ما ضاع منه. فقد كان مخلوقا علي العطاء، وكان يسعده أن يرتزق الآخرون من وراء موهبته. لكني أتذكر أنني قابلت هذا الشاعر الذي كتب له الخميسي ديوان شعره في اخريات أيامه. كان يقول إنه يعيش علي العائد المادي من حقوق الأداء علي بضع قصائد شهيرة في مصر والعالم العربي. وكنت أتساءل: هل كتبها الخميسي.. أم أنها من ابداع الرجل نفسه أو آخرين؟!.. الله أعلم.
ما حدث مع الخميسي في تلك السنوات، حدث مع غيره بالطبع. وقد ازداد الأمر سوءا بعد الطفرة النفطية، وبعد أن أصبح التأليف باسم الغير- في أحيان كثيرة- أكثر ربحا من كتابة اسمك علي ما تبدعه!! في آخر أعمال جوهرة الغناء العربي عبدالحليم حافظ، كان رائعا أن يعود الوئام بينه وبين رفيق الدرب محمد الموجي بعد سنوات من الانفصال الفني خسر فيها الاثنان الكثير، وخسرنا نحن معهما، وخسر الفن ما لا يمكن تعويضه. في لقاء العودة كانت هناك ثلاثة ألحان لا تنسي. اللقاء الأخير كان »قارئة الفنجان»، وسبقته »رسالة من تحت الماء»، وكلاهما من كلمات نزار قباني. وكانت الأغنية الأولي في رحلة العودة للقاء بين الموجي وحليم هي »يا مالكا قلبي». لو عدت لتسجيل الحفل الذي قدم فيه عبدالحليم »يا مالكا قلبي»، ثم »رسالة من تحت الماء»، لوجدت حليم منتشيا بعودة اللقاء مع الموجي. ويومها حرص حليم علي تحية الموجي، وقدم »يا مالكا قلبي»، علي أنها من تأليف الأمير عبدالله الفيصل الذي سبق أن غني له »سمراء يا حلم الطفولة»، وغنت له أم كلثوم وعدد من نجوم الغناء قصائد رائعة. في اليوم التالي كانت هناك ضجة في الوسط الغنائي. وكان الكشف عن أن »يا مالكا قلبي»، سبق أن سجلتها المطربة نجاح سلام بنفس اللحن للموجي للإذاعة المصرية، علي أنها من تأليف الشاعر أحمد مخيمر!! ولم يكن هناك مفر من أن يعترف »حليم»، علي الفور بأن هذا صحيح، وأن الأغنية للشاعر مخيمر صاحب الأنشودة الخالدة »وطني وصبايا وأحلامي».. لكن »حليم» حاول الخروج من الورطة التي وقع فيها بسبب مجاملة الأمير السعودي، بأن قال إن الأمير أضاف »الكوبلية» الأخير للأغنية، كما قام بتعديل بعض كلمات »الكوبليهات»، الأخري التي غنتها نجاح سلام!! واستطاع »حليم»، بذكائه تمرير الأزمة، لكن الأغنية - في السجلات الرسمية- لم يعد لها علاقة بالأمير الفيصل، وعادت لأحمد مخيمر، ربما رغم أنفه.. أو رغم ما كان متفقا عليه!! في وداع إبراهيم رجب • رحل عن عالمنا إبراهيم رجب. ربما لا تعرف الأجيال الجديدة قيمة هذا الملحن الجميل الذي كان الوطن وحده هو »القبلة»، التي يتوجه لها وكان الناس هم الحضن الذي يستدفئ به، ويحاول علي الدوام أن يكون صوتهم الذي يغني لهم.. ويغني معهم!! لاعب »العرائس»، الذي عشق الموسيقي وعشقته، كانت قضيته هي الغناء الجماعي. ربما كانت نشأته الفنية في أحضان المسرح هي الدافع لذلك. لكنه عاش ورحل وهو يحلم بما فعله سيد درويش، ويناضل من أجل أن يكون الغناء صوتا ينحاز للغلابة، وينتصر للأمل، وينشر البهجة والفرح بالحياة في أصعب الظروف. هكذا أبدع إبراهيم رجب »يا بيوت السويس»، وتحدي الهزيمة مع الجميل الراحل محمد حمام وهما ينشدان »والله لبكره يطلع النهار يا خال».. وهكذا غني له عبدالحليم في الأيام الصعبة »يا بلدنا لا تنامي»، وهكذا أيضا كان لحنه للمجاميع »تعيشي يا بلدي» أنشودة لمصر الجميلة. ولو أنه وجد المسرح الغنائي الذي يستوعب موهبته لأعطانا الكثير، ولو أنه أراد أن يكون جزءا من الغناء التجاري لأصبح بموهبته الرائعة في المقدمة. لكنه كان يريد الأجمل، وكان يملك الامكانيات الفنية لتحقيقه، لكن المسار الفني كان يقود إلي طريق أفضي بنا إلي ما يعانيه الغناء العربي الآن في زمن النشاز!! في حوزتي تسجيل لادائه المبدع للحنه الجميل مع كلمات فؤاد حداد »ولا غني ولا صيت»، لا أمل من سماع الأغنية، ولا أمل من الحلم الذي جسدته كلمات والد الشعراء وألحان إبراهيم رجب: مهما اتأخر/ الفجر بيطلع يتمخطر/ راكب مهرة ولابس أخضر/ ويهز البيرق والراية. وقد بقي إبراهيم رجب سنوات عمره محبا للحياة ومخلصا للفن. يغني للناس، ويعشق الوطن، وينتظر الفجر القادم بالأفضل، ويحلم كما قال في أغنية فيلم »الكيت كات»، الشهيرة بأن يصبح الغلابة في أول الصفوف!! رحم الله إبراهيم رجب.. فنانا مبدعا، وإنسانا جميلا، ولحنا سنفتقده كثيرا في زمن النشاز!! شكرا.. للأهلي كعادته انتصر النادي الأهلي للمبادئ، فنال تقدير الجميع. أخطأ المدرب حسام البدري ومساعده سيد معوض واللاعب حسام عاشور في حق حكم مباراة للنادي. كان عليهم أن يعتذروا علنا وعلي الفور، ودون انتظار قرار اتحاد الكرة الذي تقبلوه بعد ذلك بلا نقاش وأظن أن هناك عقوبات أخري داخل النادي، لن يعلن عنها، كعادة النادي ولكنها بالقطع ستكون رادعة. كان تصرف النادي مثاليا. وكان الاعتراف بالخطأ من جانب المدربين واللاعب أمرا يحسب لهم. لم يكابر أحد، ولم نسمع صرخة عن تحيز الحكام، ولم نر من يقسم بأن أحدا لا يستطيع الاقتراب من الأهلي، ولم يفتعل أحد معركة وهمية للتغطية علي ما حدث. بل أعطي النادي درسا جديدا »لأبنائه قبل الآخرين»، بأن الرياضة ليست فقط فوزا وهزيمة، ولكنها - قبل ذلك وبعده- ارتقاء بالأخلاق، وسمو في المشاعر، وابتعاد عن التعصب، واحترام للقانون. كان الأهلي كبيرا وهو يعتذر. وكان المشهد كله ينتصر للرياضة وللأخلاق. وربح الجميع وكان أولهم من أخطأوا ثم بادروا بالاعترف بالخطأ دون مكابرة، والاعتذار عنه دون تأخير. آخر اليوميات من ديوان »ورد أقل» لشاعر فلسطين والعرب محمود درويش نقتطف زهرة بعطر القدس الأسيرة وصمود أسراها المضربين في السجون الإسرائيلية: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا ونرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا