عندما أقابل أو أتذكر أو أتكلم مع صديق مسيحي أسأل نفسي ضاحكا : من هو الساذج الذي يتصور أن هناك يوما أو موقفا أضطر فيه إلي أن أرفع حجرا أو سكينا في وجه صديق مسيحي، أو يهاجمني هو بمطوة أو مسدس ؟ كل مسلم يحتفظ بمائة مسيحي صديق أو جارا أو زميلا، ويحتفظ لهم بمودة وحب وإخوة حقيقية، كل مسيحي يحتفظ بمائة مسلم صديقا أو جارا أو زميلا، ويحتفظ لهم بمودة وحب وإخوة حقيقية، في الأعياد نتبادل التهنئة بإخلاص، وفي المناسبات السعيدة والحزينة، أفراح وعقود قران وأكاليل وعزاء، يدخل المسلم الكنيسة بقلب مفتوح بكل تسامح نبيل كما أمرالله سبحانه وتعالي، يسمع في صمت تراتيل ترتفع إلي الله في اللحظة ذاتها برهافة وإيمان، يسحب منديلا ويفرش مساحة من الكنيسة ليصلي فرضا قبل فوات أوانه، يدخل المسيحي القاعات الملحقة بالمساجد، يستمع خاشعا لكتاب الله يتلي في فرح أو مأتم، يصوم شهر رمضان ممتنعا عن طعام أو شراب في شارع أو مكان عام أو مكان عمل احتراما لفريضة زملائه، وأكثر .. يصر البعض علي الإفطار في وقت أذان المغرب. الحب متبادل كما الاحترام والود والرغبة في حياة جميلة رائعة هادئة، لكل دينه، لكل عاداته وأوقات صلاته وصيامه، لكل مكان عبادته، وللاثنين رب واحد يسبحون بحمده ويطلبون رحمته ومشيئته، وللاثنين وطن واحد، يحتمون تحت سمائه، نفسها الشمس تدفئ الجميع وتزرع خبز الجميع وتشرق في اليوم نفسه علي الجميع . في يوم شم النسيم، يحتفل كل المصريين بقدوم الربيع والزهور، يقتسمون نفس اللقمة ونفس الملح ونفس الهواء، هذا يوم يجمع كل مصري مهما اختلفت أفكاره أو معتقداته، عيد مصري خالص، يوم لايفتش فيه أحد عن ديانة الآخر وهو يشاركه فسحة علي بحر أو مركب في النيل ! في طفولتي، كان زميلي في الفصل مسيحيا يكتب موضوعات التعبير عن المساجد التي زارها في الأسكندرية مع والديه، وكنت أكتب موضوعات التعبير عن الكنائس التي اعتدنا أن نشعل فيها شموعا للسيدة مريم بصحبة جيراننا المسيحيين، ولابد أن السنوات التي تلت طفولتنا هي التي جعلت أجهزة الأمن تنشط تماما لفرض محاولات بائسة من الوقيعة بيننا، وصكت وهذا هو الأهم مصطلح سيئ السمعة اسمه "الفتنة الطائفية "، حاولت أن أعرف من صك التعبير أو تاريخ تسميته، لم أعرف، أعرف فقط أنه مصطلح يجب أن نتوقف فورا في الصحف عن استخدامه، كذلك كل وسائل الإعلام ورجال الدين ورجال السياسة، مايحدث بين حين وآخر يمكن أن نسميه دون أن نختصر حجمه " خلاف في الرأي "، وفي ذروة وعز وقمة هذه الخلافات لاأذكر أن هناك مسلما تكلم مع صديقه أو جاره المسيحي عنها، أو قطع مسيحي علاقته بصديقه أو زميله أو جاره المسلم بسببها، لم يحدث، ولم يحدث أن جاءت السيرة أيضا، فالخلاف أيضا يجب أن نضعه في حجمه وهو أنه بين عدد من المسلمين وعدد من المسيحين، ليس الجميع ولاهم الأغلبية، ويكون عادة أقرب إلي خلاف اجتماعي منه إلي خلاف ديني، خلاف علي مساحة الأرض التي يقف عليها كل طرف وليس خلافا علي ممارسة فروض أو شعائر ! دور الإعلام أن يشرح، أن يحمل مصباح العلم والتسامح ليضيء المسافات المعتمة بين مسلم ومسيحي، نمحو مصطلح الفتنة، ونضعها في حروفها الطبيعية، خلاف يحتاج إلي حوار جاد وجيد ومسموع وراق وعلمي ومتحضر، كلانا لايرغب من الحياة سوي في الاستقرار والأمان والعمل وعبادة الله في هدوء يليق، كلانا يؤمن بما جاء في الآية الكريمة لكم دينكم ولي دين، كلانا في الوطن أخوة إلي أبعد حد، بشكل منطقي، وفي حياة كل منا عدد من الأصدقاء أقرب لنا من أنفسنا، كلانا بشر فيه السيئ وفيه من يملك أخلاقا طيبة، كلانا فيه المتعلم المتسامح وفيه الجاهل المتشدد، الأمر في مصر حقا ليس نزاعا طائفيا بين مسلم ومسيحي، هو نزاع بين عاقل وجاهل في الدين الواحد أو في الاثنين معا. استخدم الأمن لسنوات مصطلح »الفتنة الطائفية« للرعب والعبث في العلاقة المتينة بين الطرفين، استخدمها لحماية نفسه وحماية سطوته وحماية أفعاله وحماية النظام، وحان الوقت لنفكر، فقط لنفكر، هل هناك بين المصريين حقا مايمكن أن نسميه بفتنة طائفية، في مصر تحديدا، أم أن المصطلح أكبر من الواقع وقد تؤدي إعادة استخدامه وتداوله إلي حدوثها بالفعل في المستقبل البعيد، لماذا لا نمحو هذا المصطلح، بآخر أكثر وعيا وحكمة بحقيقة علاقة المصريين بعضهم لبعض، لتعود المسافات الضيقة التي صنعها الأمن عن عمد والإعلام عن عمد أحيانا وعن سذاجة غالبا إلي الالتئام مرة أخري في أسرع وقت. يجب أن نمنح أنفسنا الفرصة الكاملة لنفكر : هل هناك مكان آخر يمكن أن نهرب له إذا ما اصبحت الحياة في الوطن مستحيلة، هذا هو المستحيل، فكل الأماكن لاتختصر نقطة من وطن، وعليه فنحن هنا.. نحمي وطنا نرغب في الاحتماء به والحياة في تفاصيله والاطمئنان علي أن عواصفه تهدأ وجراحه تندمل ودموعه تجف بمرور الوقت .. مسألة وقت .