قبل أن أكتب هذا المقال، تناقشت في موضوعه مناقشة عنيفة مع الدكتور شارل مالك وزير خارجية لبنان، الذي قضي في القاهرة يومين في مطلع هذا الأسبوع. وكان ينبغي علي ضوء المناقشة بين وزير خارجية لبنان وبيني ألا أحاول كتابة سطر في هذا المقال، ولكن يظهر أن الساعة التي أعطاها لي الدكتور شارل مالك من وقته في القاهرة ضاعت.. ضاعت عليه.. فإن الموضوع الذي أكتب فيه، هو بالذات الموضوع الذي رأي أنه ليس من حقنا - لا أنا ولا أحد غيري في الشرق العربي - أن نكتب فيه، أو مناقشته، أو نبدي وجهة نظرنا وملاحظاتنا عليه ! والموضوع هو: بيان أيزنهاور عن الشرق الأوسط! إن المناقشة بين الدكتور شارل مالك وبيني بدأت علي النحو التالي: سألته: ما هو رأيك في بيان أيزنهاور؟ قال: هذا السؤال خطأ من الناحية الفنية! قلت: يسعدني أن أسمع منك تصحيحاً. قال: إن واشنطن عاصمة بلد مستقل، كما أن القاهرة عاصمة بلد مستقل، وكذلك بيروت وروما ومدريد، وغيرها وغيرها من عواصم الدنيا، من حق واشنطن أن ترسم لنفسها سياستها التي تحلو لها، تماماً كما هو من حق القاهرةوبيروت وروما ومدريد وغيرها أن ترسم سياستها التي تحلو لها. لماذا تريدون أن يكون لكم الاستقلال.. ولا يكون الاستقلال لغيركم؟ أليس من حق واشنطن أن تعلن للدنيا رأيها فيما قد تري أن تعلن فيه رأيها من مسائل؟ وسكت الدكتور شارل مالك لحظة وضع فيها ساقاً علي ساق ثم استطرد: وإذن ما قيمة أن أقول لك رأيي، أو تقول لي رأيك، أو نندفع جميعاً إلي قول آرائنا في بيان أيزنهاور. ثم قال الدكتور شارل مالك بلهجته اللبنانية الأصيلة: سيدي.. هادا شئ ما هو وارد! وقلت للدكتور شارل مالك: ولكن بيان أيزنهاور يمسنا.. يمسك أنت ويمسني أنا، ويمس منطقتنا كلها. قال الدكتور شارل مالك: ولو.. إن بيان أيزنهاور أمر واقع، والسؤال بإبداء الرأي فيه تعلق بالفروض، وإنما يجب أن يصبح السؤال هو: »ماذا يجب أن يكون موقفنا تجاه هذا الأمر الواقع الذي هو بيان أيزنهاور؟» قلت للدكتور شارل مالك: حيرتني.. لقد درت بي حول الأرض كلها ثم عدت بي إلي حيث كنت.. أو قريباً من حيث كنت! قال: أبداً، بين رأيي في بيان أيزنهاور، وبين رأيي في الطريقة التي ينبغي أن نواجهه بها فرق كبير.. لقد اشتغلت سنوات طويلة بتدريس الفلسفة وأنا أحب أن أرد المسائل إلي أصولها. قلت: الذي كان في تصوري أن »الرأي» في بيان أيزنهاور مقدمة منطقية »للموقف» تجاه بيان أيزنهاور. قال الدكتور شارل مالك بإصرار: أبداً.. »الرأي» في البيان شئ »والموقف» تجاه البيان شئ آخر، »الرأي» ليس في نطاق ما نملك لأنه ليس معروضاً علينا، »والموقف» في نطاق ما نملك لأننا سوف نتخذه ونقرره. هل تري الفارق الدقيق بين الشيئين! قلت: بصراحة.. لا أري شيئاً! قال: هي مسألة فلسفة! قلت: صحيح هي مسألة فلسفة! ثم بدأت مناقشة.. لم تنته إلا بعد ساعة.. والتعبير بأنها انتهت فيه تجاوز، والواقع أنها لم تنته لأني خرجت منها لأكتب في الموضوع، الذي رأي الدكتور شارل مالك أنه ليس ذا موضوع. أكتب رأيي في بيان أيزنهاور! الصورة الساخرة.. والحقيقة الواقعة! إن الرئيس أيزنهاور، في بيانه عن الشرق الأوسط، أشبه ما يكون بجندي نشيط، أمسك بندقيته بحزم، ووقف علي باب بيت ليمنع اللصوص أن يتسللوا إليه، ولكن ناراً شبت في البيت، وانتقلت من غرفة إلي غرفة، وبدأت ألسنة اللهب المشتعل تطل من النوافذ تعوي وتصرخ، ولكن الجندي النشيط ببندقيته المتحفزة، ما زال واقفاً في مكانه علي الباب.. متأهباً للصوص! صورة ساخرة. ولكنها حقيقة إلي آخر تفصيل فيها. الرئيس أيزنهاور يريد أن يأتي بقوات عسكرية لتحمي مداخل الشرق الأوسط من أي هجوم روسي مسلح، والنار تندلع في الشرق الأوسط نفسه في كل مكان فيه، ولكن الرئيس أيزنهاور مصمم علي أن يحرس الأبواب حتي لا تدخل منها قوات حمراء. إن الجندي النشيط - في الصورة الساخرة - سوف يجد نفسه بعد قليل يحمي كومة من الأطلال والرماد، وكذلك سيجد رئيس جمهورية الولاياتالمتحدة.. سيجد أن الشرق الأوسط أصبح هو الآخر كومة من الأطلال والرماد! هنا في قلبه؟!