166 صفحة صاغت أول كتب الأستاذ بروح الشباب وثورته وعبقرية المحلل وإستراتيجية الكاتب القدير هذا الكلام من مقدمة كتاب العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط, الشركة العربية للطباعة والنشر, أبريل.1958 هو أول كتاب للأستاذ محمد حسنين هيكل يقع الكتاب في166 صفحة, اضافة الي صفحة المحتويات. الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات سبق نشرها بالأهرام, أسماهاعقد. العقدة الأولي لبنان, أو عقدة الذنب, والعقدة الثانية جون فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا حينها, أو مجموعة عقد في الرجل. العقدة الثالثة الولاياتالمتحدةالأمريكية أو مجموعة عقد في سياسة دولة. العقدة الرابعة عزل مصر أو جمعية ضحايا دلاسفي الشرق الأوسط. العقدة الخامسة عقدة الاضطهاد أو هرقل والعروش الهاشمية. العقدة السادسة عقدة أوديب أو بريطانيا التي كانت عظمي. العقدة السابعة عقدة الخوف أو دور روسيا في هذه العقد. قد يكون هذا الكتاب هو أهم ما كتبه هيكل. كتبه وهو في الخامسة والثلاثين من عمره, عاكسا روح الشباب وثورته, عاكسا عبقريته الواضحة واستراتيجيته الطاغية. ربما لم يكن غاضبا وبعيدا عن دبلوماسيته المعهودة في أي كتاب آخر من كتبه الكثيرة التي تركها لنا تراثا يضاف الي بنوك الثقافة المصرية الغنية. من هنا تأتي أهمية الكتاب, لأنه تسجيل صور لحوادث جسيمة حدثت, وتسجيل للحظات تاريخية عميقة الأثر في عمر مصر وتاريخها, تعرضت خلالها للخيانة والعدوان والتآمر العالمي والتآمر المحلي والداخلي, وبطش القوة العظمي الغاشمة. كان زمنا ليس كمثله زمن في تاريخ المنطقة, كانت فيها المنطقة تمر بتغيير جذري, وتحول في اتجاه التحالفات والأحلاف. نجح الأستاذ هيكل في تسجيل الصور مثلما كتب في مقدمة الكتاب, انه يصور الوقائع, فبالتالي خرج الكتاب وكأنه يحوي صورا تاريخية نادرة. الكتاب لم يعد طباعته أبدا. كانت مصر عقب حرب1956, في أوج ثورتها, وفي أوج طموحاتها أن تكون سيدة قرارها, وأن تكون عضوا أساسيا في منظومة عدم الانحياز, وقبل ذلك أن توحد العرب تحت راية القومية العربية والاستقلال الذي طال انتظاره. أمريكا لم تر الموقف هكذا, بل رأت أمرا مخالفا. رأت أن المد الشيوعي يتمدد في أهم منطقة لأمريكا وحلفائها الغربيين حينها وخصوصا أن هناك فراغا كبيرا نتيجة رحيل القوتين الاستعماريتين: بريطانيا وفرنسا. هذا هو جذور مرد العداوة الأمريكية لجمال عبد الناصر الذي اتخذته أمريكا عدوا لدودا عندما رأت فيه أنه سيكون معوقا لنفوذها في منطقة ومحاولاته ملء الفراغ الاستعماري, وبالتالي فان أفعال عبد الناصر تمثل حياة أم موت لها ولحلفائها, ألا وهي منطقة البترول. أرادت أمريكا احتواء جمال عبد الناصرقبل ذلك, واغراءه بالدعم الكامل اقتصاديا وسياسيا عقب أزمة السويس مباشرة, ووعدته بتمويل السد العالي ووعدته بخطة مارشل ووعدته بكل أنواع الدعم, وعدته أن مصر ستكون أهم دولة في المنطقة بالنسبة لأمريكا, اذا ما ترك طموحانه وثوريته وأن يتخلي عن مشروعه القومي, وأن لا يسمح للاتحاد السوفيتي بالوجود والتمدد في المنطقة, وأن لا يتدخل في شئون أي بلد من بلدان الشرق الأوسط. الكتاب يأتي بعد اعلان ما يسمي عقيدة أيزنهاور أو كما اسماها هيكل مشروع أيزنهاور, والتي أعلنها الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في الخامس من يناير1957 في خطاب له أمام الكونجرس, والتي وافق عليها الكونجرس في مارس.1957 هذه العقيدة أو اعلان الهيمنة الأمريكي علي المنطقة, كانت الفيروس الذي زرعته أمريكا في منطقة الشرق الأوسط ورعته, وأعلنت فيه ما يشبه الحرب علي جمال عبد الناصر ومشروعه العربي الكبير. تحت هذه العقيدة: أي دولة في الشرق الأوسط يمكنها طلب المعونة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لو أحست بالتهديد العسكري من بلد آخر. أشار أيزنهاور في اعلان عقيدته الي التهديد السوفيتي المتنامي في منطقة الشرق الأوسط, معلنا التزام الولاياتالمتحدة بالحماية لتلك الدول أو الدولة من العدوان السوفيتي وأي دولة أخري تعمل معه والتي أسماها أيزنهاور الشيوعية الدولية. أعلنها أيزنهاور عندما رأي الاتحاد السوفيتي يبسط نفوذه في منطقة الشرق الأوسط عقب أزمة السويس. كان الدافع وراء اعلان عقيدة أيزنهاور أو مشروعه, هو احساس ادارة الرئيس الأمريكي بضرورة أخذ موقف حاسم تجاه الرئيس جمال عبد الناصر, الذي أعلن التزامه بالحياد الايجابي, وفي نفس الوقت كان يتعامل مع الاتحاد السوفيتي ولا يمانع في التعامل مع الغرب في نفس اللحظة. كان التخطيط الأمريكي وراء تلك العقيدة هو منح الدول العربية التي تناهض مشروع جمال عبد الناصر القومي, البديل لمقاومة ذلك المد, ومقاومة ما أسمته أمريكا النفوذ الشيوعي بالمنطقة. هذه العقيدة لم تنجح كما خطط لها, لأن نفوذ عبد الناصر وصل أوجه عام1959, وأنه أصبح مؤثرا في اختيار الحكومات في العراق ومعظم الدول العربية التي بدأت الالتفاف حول عبد الناصر ومشروعه العربي الكبير. إذن الكتاب مهم, لأن الكاتب يمدنا بالصورة الداخلية كونه قريبا من صناعة القرار وقريبا من جمال عبد الناصر, وبالتالي يمكننا من تفسير بعض ما حدث من حوادث جسام, مازالت تؤثر فينا وعلينا. يقول الأستاذ:..مشروع أيزنهاور؟ وأين هو مشروع أيزنهاور؟. لقد انتهي المشروع الأمريكي لسد الفراغ في الشرق الأوسط...ضجة صاخبة, ولكنها ساذجة, ثم خيبة أمل لها أول وليس لها آخر...وكما سقط القمر الصناعي الأمريكي الأول علي الأرض كتلة محترقة من الرماد بعد دقيقة من تجربته, سقط مشروع أيزنهاور الصناعي, كتلة محترقة من الرماد أيضا, وبعد التجربة الأولي كذلك... تلك التجربة التي جرت في الأردن عندما تحرك الأسطول الأمريكي السادس ليسقط وزارة في عمان, ويضع بدلها وزارة أخري يرضي عنها بحارة الأسطول.. وأصبح مشروع أيزنهاور نكتة, وبقايا ضجة, مثل نكتة القمر الصناعي الأمريكي الأول, وبقايا ضجته. ثم يستطرد شارحا ومفندا: ان الشرق الأوسط الآن لا تحكمه المشاكل نفسها, ولكن تحكمه العقد التي خلفتها المشاكل. ان الشرق الأوسط الآن لا يحكمه حلف بغداد, وانما تحكمه عقدة الفشل التي بقيت في نفوس الذين أرادوا أن ينجح حلف بغداد. والشرق الأوسط الآن لا يحكمه مشروع أيزنهاور, وانما تحكمه المرارة التي بقيت في نفوس أصحاب المشروع, مرارة من نوع عصبي قلق. ينقلنا بعد ذلك التمهيد الي العقدة الأولي في الشرق الأوسط أو كما أسماها عقدة لبنان أو عقدة الذنب, محاولا فيها شرح العداوة اللبنانية غير المبررة والدور الخطير الذي لعبته لبنان في محاولة انجاح مشروع أيزنهاور واعطائه قيمته. يقول: ان هناك بين لبنان الحاكم وبين مصر شيء ما, وأقول شيء ما لأنني من ناحية لا أستطيع أن أضع يدي علي مشكلة ظاهرة أعزو اليها أسبابه, ومن ناحية أخري فأنا لا أريد أن أقرر الآن ما أعتقد أنه السبب الحقيقي... فالمسألة في ظاهرها أنه ليس هناك بين مصر ولبنان مشاكل. لا خلاف علي حدود, ولا صراع علي غنيمة, ولا منافسة من أي شكل أو في ألي ميدان. كذلك ليس بين مصر ولبنان منافسة علي زعامة الدول الاسلامية.. هذا مع أن مصر تركت من زمان طويل ألقاب الزعامة في نفس الوقت الذي تركت فيه ألقاب الجلالة.. والسمو.. والسعادة الي آخر هذه الألقاب., كذلك ليس بين مصر ولبنان خلافات تقليدية, بل ان الصداقة كانت دائما هي التقليد, وكان لبنان يعتبر صداقته لمصر من عناصر قوته في وسط المجموعة العربية. لم يحدث أن أساءت مصر يوما الي لبنان, سواء في هذا لبنان الحاكم أو لبنان المحكوم, وربما حدث مرة أن نشرت الصحف بعض المقالات في الهجوم علي بعض حكام لبنان, ولكن هذه المقالات كانت لا تكاد تنشر... هذا مع أن الهجوم علي مصر أصبح السياسة الرسمية لبعض صحف لبنان, ومن حسن الحظ أن هذا البعض من الصحف أقلية, ولكن العجيب أنها الأقلية التي تعبر عن رأي لبنان الحاكم. كلمة شيء ما التي كررها الأستاذ كثيرا, كانت توحي بأن هناك مؤامرة كبيرة علي مصر. تبيان ذلك استفاضة الأستاذ هيكل في ربط الأمور بعضها ببعض كما هي عادته وكأنه وكيل نيابة أو أجاثا كريستي تحاول حل جريمة كبري. يقول: لقد اندفع لبنان الحاكم في تأييد السياسة الأمريكية... والي هنا وهذا حقه المطلق, لا يجادله فيه أحد, ثم اندفع لبنان بعد مرحلة التأييد الي مرحلة المساهمة في التنفيذ. قبل مشروع أيزنهاور قبل أن يقبله الكونجرس الأمريكي.. والي هنا وهذا أيضا حقه المطلق لا يجادله فيه أحد. وهاجمت مصر مشروع أيزنهاور واذا لبنان الحاكم لا يدافع عن مشروع أيزنهاور, وانما يهاجم الذين يهاجمونه.. يهاجم مصر وغير مصر, ويتهم آراءهم علي حد تعبير وزير خارجيته الفيلسوف شارل مالك بأنها غوغائية ويستطرد الأستاذ كاشفا الأسرار ربما عن أكبر مؤامرة ضد مصر في ذلك الوقت: والي هنا حتي الي هنا والخلاف في الرأي الي درجة الهجوم حق لبنان المطلق لا يجادله فيه أحد. ولكن السياسة الأمريكية بعد مشروع أيزنهاور وفي بداية عام1957, كانت متجهة في الأصل الي عزل مصر وتركها وحدها داخل حدودها تلعق جراحها بعد العدوان, والتعبير ليس من عندي, وانما التعبير استعارة من لبنان... واذا لبنان الحاكم علي رأس سياسة العزل. ثم يلقي قنبلته المدوية: أصبحت بيروت قاعدة للمؤامرات ضد مصر ومركزا للمتآمرين عليها. ولم تقل مصر كلمة واحدة. وشنت علي مصر حرب الأعصاب.. وحرب الاقتصاد.. ومحاولات خفض الجنيه المصري.. كل ذلك من بيروت.. ولم تقل مصر كلمة واحدة. وتجمعت المخابرات البريطانية والمخابرات الامريكية والمخابرات الفرنسية, تجمعت كلها ضد مصر, وكان تجمعها في بيروت. ولم تقل مصر كلمة واحدة. وخرج لبنان الحاكم يحاول تنفيذ الخطة لعزل مصر وأن يفتت المعسكر الذي تقف فيه مصر, ويقوم بما يشبه أعمال السمسرة والوكالة بالعمولة لعمليات العزل. ولم تقل مصر كلمة واحدة. بل وجهت التهم ضد مصر ربما احساسابعقدة الذنب وقيل أن مفرقعات مصرية وجدت في بيروت وأن الهدف منهاحكام لبنان, هذا بينما حكام لبنان يعرفون أن هذه المفرقعات المصرية, دخلت لبنان بعلم حكامه, ولغرض وطني عربي يعرفه هؤلاء الحكام ويقرونه. لقد دخلت هذه المفرقعات قبل العدوان علي مصر, وكان المفروض أن تستعمل ضد اسرائيل, اذا حدث أن هاجمت بريطانيا وفرنسا مصر بسبب قناة السويس, وأرادت اسرائيل أن تستغل الفرصة لحسابها, هذا هو السر وهذه هي الحقيقة التي يستطيع أن يشهد علي صحتها الجنرال فؤاد شهاب قائد جيش لبنان ولكن الذنوب يجب أن تنسب الي مصر في الوهم, ما دامت لم تتحقق في العلم,.. وقالها الدكتور شارل مالك في بيروت أكثر من مرة, وكان يقولها كل يوم في النصف الأول من عام1957: ان الولاياتالمتحدة قد قررت عزل مصر وبالتالي ليس هناك فائدة ترجي من محاولة اشراك مصر في أي سياسة في المنطقة, وقال أيضا, ان الولاياتالمتحدة قد شطبت اسم عبد الناصر من الشرق الأوسط بنص العبارة التي استعملها شارل مالك باللغة الانجليزية: TheyhavewrittenNasseroff لقد صدق شارل مالك أن مصر ستعزل.. وأن جمال عبد الناصر سيعزل من اللوح المحفوظ الأمريكي. صدق.. ورتب نفسه أنه صدق.. وحاول أن يقنع غيره أن يصدقوا هكذا وهكذا اندفع لبنان الحاكم طوال شهور سنة1957 في تنفيذ سياسة عزل مصر. هذا الكلام الراسخ من الأستاذ هيكل يفسر التاريخ ويفسر ما حدث. نعم تكونت الجبهة القومية في لبنان ردا علي كميل شمعون وملئه بقيادة رشيد كرامي, ونعم كان هناك حب وتعاطف لمصر وعبد الناصر, ولكن المؤامرة التي تحدث عنها الأستاذ هيكل, كان لا بد من استكمالها, لأن عقيدة الهيمنة او البلطجة لا يرضيها انتصار أي مخالف لها ولو اقتضي الأمر حربا عالمية بتاريخ15 يوليو1958 امر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ارسال قوات المشاه الأمريكية فيما عرفت بعملية الخفاش الأزرق ودخلوا لبنان. ان التاريخ الذي يفسره لنا الأستاذ هيكل يجعلنا نجد العذر لعبد الناصر الذي كان يتآمر عليه العدو والحبيب, والذي لم يكن كما كان يصوره البعض محبا للمواجهات مع الأمريكيين. انهم صناع الفوضي وصناع المؤامرات.انه الاستعمار الذي دائما يجاهر مصر العدوان في السر والعلن.