بعد نشر مقالي في عدد الجمعة الفائت بخصوص وجوب التغيير الجذري في مكتبة الإسكندرية بعد ثورة 25 يناير؛ اتصل بي أحد المسئولين بالمكتبة واقترح علي فكرة الحوار مع المكتبة للوصول إلي أفضل الطرق للتغيير المنشود. طبعا رفضت هذا الاقتراح، لأسباب كثيرة، أولها أنني أمثل نفسي، وكذلك فهمي للحظة الآن أنها لحظة تغيير جذرية، وليست لحظة مناقشة أو فصال. وأن هناك نموذجا يمكن أن يحتذي به صنعته الثورة المصرية، بالرغم من تعقيداتها وتركيبها، ألا وهو الرغبة الملحة في إرساء نظام جديد، حتي ولو كان متعجلا، و" خلع" أي نظام قديم كان له نسب من قريب أو بعيد بالنظام السابق أو استفاد منه أو تواطأ معه. أحسست من كلام المسئول، ومن نشاط المكتبة خلال الأيام القليلة الفائتة، من حفلات، وندوات لشباب الثورة، وشهادات لأمهات بعض الشهداء، أنها في واد آخر، وبعيدة عن استيعاب ماحدث في مكانه الصحيح. أو أن لديها رغبة متعمدة في امتصاص زخم الثورة، باتجاه التفاعل معها، أو إفساح مكان لها في حضنها، حتي يمر ماحدث بسلام. بالتأكيد لن يمر ماحدث بسلام كما يتصور القائمون علي المكتبة. فتلك الثورة التي زلزلت كل شيء من حولنا، وخلقت وضعا جديدا لم نستوعب بعد كل تبعاته وتأثيراته علي مجتمعنا وأرواحنا، من هول المفاجأة وقوتها؛ جعلت وعينا معلقا بتلك الملايين التي خرجت تطالب بإسقاط "النظام". لم تستهدف الثورة فقط النظام السياسي أو النخبة السياسية في جدول حسابها، بل النظام بمفهومه الاجتماعي الأعمق، حيث يتغلغل الفساد والمحسوبية والتواطؤ، وكل أشكال التعالي علي الشعب. إنها لحظة هامة في تاريخنا، ويجب علي الجميع أن يمتثلوا لها، ومهمة أي مؤسسة الآن أن تضع نفسها مباشرة أمام الرأي العام، وتكون علي مستوي المسئولية أمام ماحدث، أن تستقيل كما حدث في كثير من النقابات والمؤسسات والهيئات حتي تبعد عن نفسها شبهة التواطؤ، أو عدم الإنصات أو تجاهل ماحدث وعدم تقديره التقدير المناسب. لقد تحولت مكتبة الإسكندرية عبر أعوامها التسعة إلي إقطاعيات، كل إقطاعية يديرها شخص متعال، لم يبرح إقطاعيته منذ نشأتها، بل واستفاد منها في توطيد وزيادة مساحة نفوذه داخل المجتمع. لقد خلقت المكتبة مراكز نفوذ جديدة خادعة داخل الثقافة المصرية. هذا الشكل الإقطاعي يكفي للتدليل علي مدي التصلب والفساد في الفكر الذي كانت تدار به المكتبة، كما كان يدار به فكر مؤسسة الرئاسة. بالتأكيد أي جمود في أي منصب سيتخلق عنه أشكال من الفساد، ومجموعة من التواطؤات التي ستكشف عنها الأيام القليلة القادمة. مثلا ماهو معيار الكفاءة في رؤساء الأقسام الذين كانوا يشكلون علامة استفهام واسعة أمام الرأي العام؟ لقد نجح مناخ التواطؤ المحكم الذي رسخه النظام السابق في المجتمع عامة في امتصاص أي احتجاج أو تساؤل يدور حول أي مسئول أو قضية. كذلك كيف كانت تدار المعونات والمنح الخارجية للمكتبة؟ هل كانت المكتبة علي مستوي مااستحوذت عليه، والحماية التي وفرت لها أم لا؟ بالإضافة لشبكة العلاقات بين مسئولي المكتبة وبعض كتاب ورؤساء تحرير الجرائد القومية والمستقلة، وتسكين كتابها، بداع وبدون داع، داخل هذه الشبكة العنكبوتية من المصالح، كمستشارين وناصحين ومتسترين. المكتبة لم تكن بمنأي عن إخفاق وتدليس الدولة السياسي والاجتماعي خلال العقد الأخير. لقد تبنت المكتبة أهم مشروعين للدولة في تلك السنوات وأعتقد أن هذا تم عن قصد. المشروع الأول، مشروع الإصلاح والتنوير السطحي والذي جُند له جيش من المثقفين. وثانيهما العلاقة مع إسرائيل، وهي قضية حساسة للغاية، والذي سمحت بها الدولة، ضد أي رغبة شعبية، لأنها منذ اتفاقية السلام وهي تضع نفسها في المكان الأضعف باتجاه إسرائيل، فكانت المكتبة أحد أدواتها لتجميل هذا الضعف، ووضعه داخل إطار فكري تحت يافطة " الحوار مع الآخر". لقد سارت المكتبة علي نهج مؤسسسة الرئاسة تحت شعار فضفاض ومفتوح، متجاهلة تماما حساسية المجتمع الذي يحيط بها من هذا " الآخر"، وعدم استواء الفكرة لديه. فهل المكتبة جاءت لتعبر عن فكر هذا المجتمع أو لتفرض عليه فكرها، أو لتكون وسيطا سياسيا منحازا ؟ ربما هذا ما أكد عزلتها وتعاليها عن ماحولها. لقد خلقت الثورة وضعا سياسيا جديدا لمصر في المنطقة والعالم،عبره نري أنفسنا من جديد، ونعيد صياغة ثوابت مستهلكة، سواء لفكرة التنوير التقليدية، والتي أعتقد أنها تحتاج لمراجعة من الكافة، أو لشكل العلاقة الحساسة مع إسرائيل في المستقبل. بالإضافة للشق الاجتماعي للثورة وهو القضاء علي الفساد، والذي بدأت تتكشف طبقاته وخيوطه داخل المكتبة. هذا الوضع الجديد يحتاج لفكر جديد وطريقة مختلفة في إدارة هذا الكيان الثقافي الذي نبغي جميعا استمراره، وأن تلعب دورها كوسيط ثقافي نزيه. علاء خالد