العبد لله كاتب هذه السطور ممن يؤمنون إيمانا عميقا بأن «اللغة» هي الإنجاز الأهم للإنسان وقد بدأ منها رحلة تحضره وتقدمه الطويلة جدا، ولا أظن أن هذه الحقيقة الساطعة تحتاج إلي شرح أو أدلة، فاللغة ليست أداة التواصل والتفاعل بين البشر فحسب، وإنما هي أبرز تجليات نعمة العقل التي أفاء بها المولي تعالي علي النوع الإنساني من دون سائر خلقة، كما أنها أساس كل اختراع وأصل أي إبداع. ولأن اللغة تتمركز في هذه المكانة الخطيرة التي لا يدانيها شئ آخر في دنيانا، فقد كانت دائما هدفا للشرور (مثلما كانت وستبقي فاعلا أصيلا في الخير والعمران)، ولو شئت الدقة فإن الخراب والإجرام يبدآن من العدوان علي»اللغة» والسطو علي معانيها وتزوير دلالات كلماتها تمهيدا لاستلاب عقول الناس وفرض البؤس عليهم وتشويه أرواحهم وتدمير أخلاقهم. الفقرتان السابقتان قد تبدوان لحضرتك «تنظيرا» ثقيلا من دون مناسبة، لكني أدعوك بإلحاح لأن تنظر حولك لتكتشف بنفسك مظاهر خيبتنا وتخلفنا وإخفاقنا علي كل صعيد، تطفح مظاهرها في فضيحة «اللغة السائدة» حاليا، تلك التي ربما تمدحها لو أكتفيت بوصفها أنها عبيطة ومراوغة أو هابطة وبذيئة لدرجة مخجلة.. إنها لغة تنوء بحمل كل أنواع الجرائم والملوثات. الأديب والمفكر البريطاني جورج أورويل (1903 1950) ذاع صيته وتكرست مكانته باعتباره من أكبر أدباء القرن العشرين بسبب روايتيه «مزرعة الحيوانات» و»1984» المصنفتين ضمن أهم وأكثر منتجات الأدب في القرن العشرين شهرة وانتشارا، والروايتان هاتان بالذات، فضلا عن كونهما تحفتان إبداعيتان، فقد أظهر فيهما أرويل تفوقا ونباهة تاريخية وهو يلقي في ثنايا السرد ضوءا كثيفا علي حقيقة أن اللغة المشوهة عمدا هي أشد الأسلحة تدميرا وفتكا في ترسانة العصابات ونظم الحكم الفاشية. لقد أعطي أورويل قضية «اللغة المغتصبة» وتحويل الخطاب السياسي الكذوب إلي سلاح دمار عقلي شامل وأداة للسطو علي الأدمغة والأرواح، أهمية قصوي ومركزية حتي أنه لم يكتف بروايتيه المذكورتين وإنما جعل هذه القضية موضوع بحث قيم نشره في العام 1946 تحت عنوان «السياسة واللغة»، وقد عمق فيه الأديب المعاني نفسها التي سبق أن سربها بنعومة وجمال من خلال حكايتي «مزرعة الحيوان» و»1984»، ومن ثم تخلق بعد هذا البحث مصطلح «اللغة السياسية الأورولية»، وأضحي منتشرا وشائعا ولا غني عنه في وصف خطاب وشعارات ودعايات الديكتاتوريين والفاشيين من كل صنف. ومادمنا في سيرة الأدب وإبداعاته فإن قضية «اللغة» وإشكالياتها، خصوصا عندما تضربها الفوضي عمدا أو بسبب تعقيدات الحياة وتراكم الهموم والمعاناة الإنسانية، فإن بعض أهم المبدعين انشغلوا جدا بهذه القضية (وإن لم يصلوا في تناولها إلي مستوي أورويل) ومنهم المسرحي الفرنسي الروماني الأصل، يوجين يونسكو (1909 1994) الذي عرض في واحدة من أجمل أعماله (مسرحية «الدرس») كيف تتحول اللغة أحيانا من أداة للتفاهم بين البشر إلي عائق خطير أمام تواصلهم. وقائع المسرحية تبدأ وتنتهي في حصة «درس خصوصي» يلقيه مدرس مسن علي فتاة صغيرة، لكن الحوار الذي يدور بين الاثنين يكشف أنهما غير قادرين علي التفاهم أصلا بسبب أن الألفاظ والكلمات تحمل عند كل منهما معاني متباينة، بل ومختلفة تماما.. يعني مثلا عندما ينطق أحدهما بجملة مفيدة فيها كلمة «جدتي» أو «وطني»، فإن الجملة سرعان ما تبدو غير مفيدة بالمرة.. لماذا؟ لأن كل واحد منهما يقصد «جدته» أو «وطنه» هو وليس الجدة والوطن بالمعني العام، وهنا تتجلي مشكلة «لا تفاهم» عويصة لا حل لها سوي أن يفرض المدرس سيطرته وسطوته، ليس لأي سبب سوي مكانته وسلطته كأستاذ يفترض أنه هو الذي يعطي ويلقي من فوق، فيما التلميذة المسكينة مسجونة في دور مجرد متلقٍ يأخذ من سكات ومن دون تفكير أو نقاش. تبلغ المسرحية ذروتها وذروة المأساة أيضا، عندما يقول المعلم لتلميذته في موضع من الدرس عبارة: «السكين تقتل»، فإذا بالفتاة تعبر عن عدم اقتناعها، إذ هي تعرف فقط أن «السكين تقشر البطاطس وتقطع أشياء أخري لكنها لا تقتل».. هنا ينفد صبر المعلم فيقدم علي طعن التلميذة بسكين في صدرها لكي تفهم أن السكين يقتل فعلا !! و.. أختتم بأن شكوكي تلامس حدود اليقين أن تعليم وثقافة قطيع «المخبرين» القدماء والمستجدين السارحين هذه الأيام علي بعض المنابر التي تنسب نفسها للإعلام زورا وبهتانا، لا تسمح لهم بمعرفة من هو جورج أورويل ولا يوجين أونسكو أصلا، ومع ذلك فهناك ما يعزز يقيني واقتناعي بأن هذا القطيع والذين يقفون خلفه يوجهونه ويحركونه، توصلوا «بالغريزة» وليس العقل لنوع بدائي وبذئ جدا من اللغة المنحطة يستعملونها (كما تري حضرتك) كمطواة «قرن غزال» يعربدون بها يمينا ويسارا في غياب من يردع أو يحاسب.. يبدو لأن «المحاسب» متواطئ، أو راضٍ ومبسوط كده.