يربط كثير من الناس في أذهانهم وتصوراتهم بين مفهوم البدعة، وكل أمر مستحدث يعتقدون أنه مخالف للشرع والدين، حتي توسع هذا المفهوم وصار بنظرهم كل شيء بدعة، سواءً في سلوك المسلمين، أو في عاداتهم، يصفونه علي أنه من البدع والضلالات، وبات مقترناً لدي الناس بأن «كل بدعة حرام»، لأنهم ظنوا أن كل ما يفعله النبي صلي الله عليه وسلم في حياته فهو بدعة وضلالة لا يجوز فعلها، وهذا غير صحيح، لأنه يصور الإسلام علي أنه ضد الحياة، أو أنه يرفض تطوراتها، ولا يساير متغيراتها. في حين أن المفهوم الصحيح للبدعة، الذي ورد في حديث النبي صلي الله عليه وسلم «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، هي ما خالَف أُصول الشريعة، أو أمراً قطعياً في الدين، مثل أن تصلي الظهر خمساً من باب الزيادة للثواب مثلاً؛ فهذا مخالف لأصول الشريعة أو أن تصلي صلاة الجمعة يوم الثلاثاء فهذا مخالف لأمر قطعي في الدين، وهكذا يصغر مفهوم البدعة جداً فلا تصادم الحياة. يقول أبو حامد الغزالي: «ليس كل ما أبدع منهيّاً عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع»، أما ابن تيمية فيقول عن البدعة: «ما رآه المسلمون مصلحة إن كان بسبب أمر حدث بعد النبي فها هنا يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه»، وقال النووي: «وليس كل ما لم يكن في زمنه (النبي) يسمي بدعة، لكن منها: ما يكون حسناً، ومنها: ما يكون بخلاف ذلك». ويقول ابن الأثير: «البدعة بدعتان؛ بدعة هدي وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر به رسول الله فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه فهو في حيز المدح». وقال: «والبدعة الحسنة في الحقيقة سنة، وعلي هذا التأويل يحمل حديث «كل محدثة بدعة» علي ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة». هكذا تعامل النبي: وقد ثبت أن النبي ترك الخطبة بجوار جذع شجرة وخطب علي المنبر، ولم يفهم الصحابة أن الخطابة علي المنبر بدعة ولا حرام، فقاموا بصنع منبر له صلي الله عليه وسلم، وما كانوا لهم أن يقدموا علي فعل حرمه النبي، فعلم أنهم كانوا لا يرون الترك بدعة. وفي مواقف النبي الأكرم ما يؤكد عدم اعتراضه علي كثير من «البدع» بمفهومنا، بل واستحسانه لها، وقد ترك رجلاَ في الصلاة بعد رفع الرأس من الركوع، قال الرجل: «قال رفاعة بن رافع: «كنا يوماً نصلي وراء النبي صلي الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده»، قال رجل وراءه: «ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه»، فلما انصرف قال: «من المتكلم». قال: «أنا»، قال «رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها، أيهم يكتبها أولاً». ولم يعاتبه النبي صلي الله عليه وسلم علي المسلك فلم يقل له مثلا: «أحسنت ولا تعد» أو نهاه عن إنشاء أدعية أخري في الصلاة. ولم يفهم بلال مؤذن الرسول من ترك النبي لصلاة ركعتين بعد الوضوء عدم جواز ذلك، بل قام بذلك، ولم يخبر النبي، وإنما لما سأله قائلاً: «يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة». قال: «ما عملت عملاً أرجي عندي، أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي». قال أبو عبد الله: «دف نعليك يعني تحريك» (أخرجه البخاري). ثم إن النبي جعل ثواباً لمن يقدم شيئاً جديداً غير مسبوق للخير والإصلاح، فقال النبي: مَن سنّ سُنّة حسَنة كان له أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها، وقال في ضدّه: مَن سَنَّ سُنّة سيئة كان عليه وِزْرها ووِزْر مَن عَمِلَ بها. التراويح وجمع القرآن ومن هذا النوع قول عمر: نعمتِ البِدْعةُ هذه، حيث جمع الناس علي صلاة التراويح وسَماها بدعة ومدَحَها؛ مع أن النبي، لم يَسُنَّها لهم، وإِنما صلاَّها لَيالِيَ ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أَبي بكر؛ وإِنما عمر جمع الناسَ عليها وندَبهم إِليها فبهذا سماها بدعة، وعلي هذا التأْويل يُفهم معني الحديث : كلُّ مُحْدَثةٍ بدعة.. أنه يقصد ما خالَف أُصولَ الشريعة». وزاد عثمان بن عفان أذاناً ثانياً يوم الجمعة، قال السائب بن يزيد الثقفي: «إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني علي المنبر». كما جمع عثمان القرآن علي الترتيب الذي عليه المسلمون حتي اليوم، ونقط يحيي بن يعمر المصاحف، ووضع أبي الأسود الدؤلي قواعد النحو بعد استشارة علي بن أبي طالب. لقد كان الصحابة والتابعون أصحاب عقليات فارقة بين البدعة المذمومة وبين الإبداع للخير والإصلاح فأبدعوا علوما كثيرة لم تكن علي عهد النبي، مثل «علم العقيدة»، أو «علم الكلام»، أو «علم التوحيد»، أو «أصول الدين»، وهكذا تتعدد أسماؤه لشرفه وعلوه، وأنشأوا «علم الفقه»، ثم بعد ذلك أنشأوا «الكامن» في علم الفقه، وأنشأوا «أصول الفقه»، وأيضاً «علم الأخلاق» الذي سمي ب «التصوف»، والجرح والتعديل، ومصطلح الحديث، والرواية، والدراية، كل ذلك كان في القرون الأربعة الأولي. ويجب أن نتأسي بهم وأن نكون أوسع عقلاً وأرحب صدراً مثلهم، وأن ننظر إلي مفهوم البدعة من منظورهم، بأنها لا تعني بالضرورة مخالفة الشريعة، أو ثوابت الإسلام، فهناك الكثير من الأمور الحسنة التي يجب أن نتغافل عنها، ونعمل من خلالها علي أن نفيد ديننا ودنيانا.