اجمل اللحظات هي تلك التي اقضيها في قراءة كتب السيرة العطرة، سواء تلك التي كتبها القدامي او المحدثون، المسلمون وغير المسلمين. انها رحلة لمعرفة ازهي عصور التاريخ، عصر النبوة، هذا العصر الذي تغيرت فيه معالم الحياة في العالم كله، وهو العصر الذي صاغ التاريخ صياغة جديدة، لانه علي حد تعبير الاستاذ العقاد وهو يتحدث عن عظمة الرسول «ان هذه العظمة مكانها في التاريخ ان التاريخ كله يعد محمد متصلا به مرهونا بعمله، وان حادثا واحدا من احداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله». واثناء قراءتي في كتب السيرة اجد متعة وانا أقرأ عن عصر برجاله ونسائه الذين غيروا وجه الحياة علي الارض. وقد اخذت اعيد ما قرأته في كتاب «سيرة النبي العربي محمد رسول الله للباحث احمد التاجي والذي كتب مقدمته د. عبدالحليم محمود شيخ الازهر الاسبق. وفي سياق الحديث عن السيرة العطرة اتوقف عند بعض مواقف سيدة عظيمة وهي السيدة صفية بنت عبدالمطلب عمة الرسول ومواقفها التي تنم عن شجاعة العقل وشجاعة القلب في نفس الوقت. كان موقفها عظيما وشجاعا يوم علمت ان اخاها الفارس العظيم حمزة بن عبدالمطلب، قد استشهد في معركة أحد، ومُثّل بجسده الشريف، ولاكت كبده هند بنت عتبة زوجة ابي سفيان، وقررت ان تشاهد اخاها العظيم. وكره الرسول ان تراه مشوها واشفق عليها، واشار إلي ولدها وقال: يا زبير.. المرأة.. يسأله ان يردها عن حمزة. فجري الزبير اليها وقال: يا أمه، ان رسول الله يأمرك ان ترجعي. قالت: ولِمَ، وقد بلغني انهم مثلوا بأخي، وذلك في سبيل الله، فما ارضانا بما كان من ذلك وبما اراد الله، والله لأصبرن واحتسبنه عند الله. فلما رأي الزبير شجاعة امه وتصبرها علي اخيها، رجع إلي الرسول يُخبره بما قالت، فأمر ان يتركها وشأنها، فلما وقفت علي «حمزة» وشاهدت ما اصابه، استغفرت له، وترحمت عليه، ثم مسحت دموعها وعادت وهي تقول: ان يوما اتي عليك ليوم ... كُدرت شمسه وكان مضيئا وقد كانت صفية شاعرة. والمشهد الثاني الذي يدل علي بطولة هذه السيدة العظيمة: في غزوة الاحزاب، وتنكر يهود قريظة لعهودهم، وكانت نساء المسلمين في المدينة، فقد جعل النبي النساء في الحصون، وحاول اليهود ارهاب هؤلاء النسوة، فطاف بعض فتيانهم بيوت المسلمين في المدينة، وليس فيها سوي نسائهم وذراريهم. قالت صفية عمة النبي : «لما خرج النبي لقتال عدوه يوم الخندق، وضع نساءه وآل بيته في حصن «حسان بن ثابت» المسمي «بالفارع» وكان امنع حصن للانصار، وجعل «حسان» معنا فلما كان يوم الخندق رأيت رجلا من اليهود يطوف بالحصن. فقلت: يا حسان ان هذا اليهودي كما تري يطوف بالحصن، واخشي ان يدل علينا من وراءه من اليهود فيهجموا علينا، وليس معنا احد من الرجال، وقد شغل رسول الله واصحابه عنا في الخندق فهل لك ان تنزل له فتقتله وتريحنا منه؟! قال حسان: ما تقولين يا ابنة عبدالمطلب؟ لو ان لي علما بالقتال ما بقيت معكم؟ قالت صفية: عجبا! أبقيت معنا لنحرسك يا حسان؟ اتقاتل المرأة ويقعد الرجل؟! ثم اخذت «صفية» عمودا من خشب ونزلت من الحصن. وفتحت الباب شيئا فشيئا، ثم فاجأت اليهودي بضربة علي رأسه، فخر علي الارض، فأخذت تضربه بالعمود حتي قضت عليه! ورجعت إلي حسان وقالت له: - قم يا حسان فانزع عنه درعه وسلاحه، فإنه لم يمنعني من سلبه سوي انه رجل. قال حسان: ما لي حاجة في سلبه ياابنة عبدالمطلب! أليست هذه القصة تدل علي ان هذه السيدة العظيمة صفية عمة رسول الله.. امتازت بشجاعة القلب والعقل، وان مواقفها تدل علي هذه الشجاعة النابعة من القلب والعقل ايضا. محنة أبي فراس كنت استمع إلي رائعة ابي فراس الحمداني التي تشدو بها سيدة الغناء العربي أم كلثوم: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر اما للهوي نهي عليك ولا امر وراح خيالي يسرح بعيدا إلي القرن الرابع الهجري حيث كان يعيش الشاعر الفارس ابو فراس الحمداني.. كان شاعرا موهوبا.. وكان فارسا مغوارا، وكان سعيدا بأنه يعيش في عصر ابن عمه الشهير سيف الدولة الحمداني وقد قال عن ابي فراس الصاحب بن عباد: بدأ الشعر بملك وختم بملك. وهو يقصد بذلك امرأ الفيس وابا فراس. وانا كثيرا ما يستهويني سير بعض العظماء الذين تركوا بصماتهم علي الحياة، وليست قصص هؤلاء الناس مجرد حكايات يردد صداها الزمان، ولكن تحمل بين طياتها عبرة التاريخ والحياة. واقول لنفسي كم مرت علي البشرية من مواكب الحياة. هناك من عاش ومرت حياته دون ان يترك اثرا واصبح نسيا منسيا. وهناك من جاؤوا ضيوفا علي الحياة لم يدر بهم احد، ولم يدروا هم بأحد.. كما ان من الناس من عاشوا الحياة واستطاعوا التعبير عنها، فلم تستطع الايام ان تسدل ستارا علي قصة حياتهم، وما فيها من أمل وألم.. ومن يأس ورجاء. وقد استوقفتني حياة هذا الشاعر الامير ابو فراس الحمداني، كان شاعرا.. جزل العبارة مشرق الفكرة. قوي الديباجة. وكان من الذين يحترم شعرهم أبو الطيب المتبني.. وكان لا يجرؤ علي الدخول معه في مباراة شعرية. والذي يقرأ شعر ابي فراس، يشعر باعتداده بنفسه، وترفعه عن الصغائر، وكان من عادته في شعره ان يبدأه كما يبدأ الشعراء اشعارهم بالغزل، ثم يدخل بعد ذلك في موضوع شعره. وقد أهداه ابن عمه سيف الدولة ضيعة تغل ألف دينار كل سنة لاعجابه بشعره عقب مساجلة شعرية. وتمضي الايام مع الشاعر الفارس، حتي وقع في اسر الروم بعد موقعة حربية اصيب فيها بسهم وجرح، وهو في الطريق إلي الاسر يكتب قصيدة من اجمل القصائد العربية، يصور حاله بعد ان وقع في يد العدو. هنا نري الشعر الرقيق الذي يعبر عن مشاعر حقيقية، وعن حزن عميق.. انه اشبه بطائر جريح يغني: هل تعطفان علي العليل ... لا بالأسير ولا بالقتيل باتت تقلبه الأكف ... سحابة الليل الطويل الي آخر هذه القصيدة التي تصور مشاعر حقيقية لانسان عاش في ظل العز والجاه، وفجأة وجد نفسه وحيدا فريدا الا من ذكريات ماضية، وحلو ايامه الخالية، فيترك نفسه علي سجيتها يصف آلامه واحزانه، وتطلعاته إلي أن يعود إلي الحرية التي فقدها. وعاني الشاعر كثيرا عندما عاش في الاسر اربع سنوات، ولم يجد من يستجيب له ويدفع عنه «الفدية» ليعود إلي الحرية. انه يتذكر الحنان الخالد.. يتذكر امه الحبيبة.. يتذكر الصدر الحنون، فيرسل اليها يشكو آلامه واحزانه، وما يعانيه من الغربة والاسر، ثم وهو في حاجة إلي الحنان يطلب منها الصبر والسلوان. لولا العجوز بمنبج ... ما خفت اسباب المنية ولكان لي عما سألت من الفدا نفس أبية الي ان يقول: يا أمنا لا تحزني ... لله ألطاف خفية يا أمنا لا تحزني ... وثقي بفضل الله فيه ومنبج هي المكان الذي تعيش فيه الام، ولكن الأخبار تأتيه بموت امه، فيزداد حزنا، ويناجي نفسه وهو يرثي اعز الناس إلي قلبه: الي من اشتكي ولمن اناجي اذا ضاقت بما فيها الصدور؟! وتمر الايام.. ويخرج الشاعر من السجن، ويعود إلي بلاده، لكنه قتل عام 357ه عندما نشب الخلاف بينه وبين ابي المعالي بن سيف الدولة لتصور الاخير انه يطمع في السلطة. ان محنة هذا الشاعر عذبته جسديا وخلدته ادبيا. كلمات مضيئة كما ننام نموت، وكما نستيقظ نبعث.. ومن كان في شك من الموت والبعث، فليعش ان استطاع بلا نوم ولا استيقاظ. خالد محمد خالد