لا أرهب الموت لكني أسائله هل ذقت ما أنت بالإنسان فاعله؟ ما هكذا يكون الوداع: لأول مرة لم يخرج الغيطاني ليحكي لنا ما حدث في مرضه الأخير، كان سيخرج نوتته الصغيرة ليكتب أدق الأشياء.. ليحكي كيف فاجأته هذه اللحظة وهو في كامل وعيه − سيحكي عن زائريه، وسَيدون أسماء من كتبوا عنه، ويترجم مشاعر من حزنوا عليه، لم تفارق هذه النوتة الصغيرة جيبه، قال لي أستاذي أشتيفان فيلد عميد كلية الآداب بجامعة بون.. الروائي جمال الغيطاني سيكون معنا في يوم الثلاثاء القادم، فرحت كثيراً فأنا أعرفه وقرأت له، في الصباح كانت صورة الغيطاني تملأ أرجاء الجامعة، وفي خلفيتها الأهرام وقبة الحسين... دخل الغيطاني القاعة الرئيسية التي امتلأت عن آخرها، بينما وقف عدد كبير.. بدأ الغيطاني يحكي عن الزيني بركات وعن القاهرة وكأنه يتمشي فيها، وفجأة لمحني؛ صاح: ∩أبو الفضل بدران∪ وترك الميكروفون والمنصة ونزل يُعانقني، وضجت القاعة بالتصفيق.. وترك الغيطاني أعماله لكي يتحدث عني وعن أعمالي وعن الصعيد، وأخذ يحكي، بعد انتهاء الندوة تمشينا علي نهر الراين... وأخذ يقارن بين نهري الراين والنيل فوجئت بأنه يعشق النيل، كان المساء قد أحاط مدينة بون ورحت أتأمل وجهه في الضوء الخافت، حدثني عن طفولته وعن عشقه لابن إياس والتراث. عندما عدت إلي مصر زارني في بيتي بقرية العويضات قفط وظل بين أهلي الذين ذكروه بأهله.. ظل يمشي في أروقة القرية بين البيوت الأثرية، توقف أمام بوابة قديمة وأخذ يدون في نوتته الأثيرة، كان أحد أبناء عمي قد توفي، أصر الغيطاني أن يذهب إلي العزاء ؛تأمل وجوه الواقفين في المضيفة، كتب في يومياته عنهم وعن ملامحهم، ثم تحدث عن المتوفي، الذي لم يره وكيف تصور ملامحه وأحلامه.. سر الغيطاني ومفتاح إبداعه التأمل العميق.. إنه لا يري الأشياء كما نراها نحن، وإنما يراها بما يشعر به... في مرة أخري زارني في الكلية عندما كنت عميداً لكلية الآداب، سمع الشيخ أحمد الطيب مني أنه قادم، أصر علي أن يأتي الغيطاني إلي الساحة، ذهبنا مع الصديق مصطفي عبد الله ودار حوار عميق، وكتب الغيطاني ما دار في هذا اليوم.. يخرج كتابي ∩الخضر في التراث العالمي ∩ الذي نشر أجزاء كبيرة منه بأخبار الأدب، ويكتب الغيطاني عنه مقالاً أفخر به ما حييت، ، ألتقيه أخيراً في الهيئة العامة للكتاب، انتحي بي جانباً تحدثنا كثيراً وقال لي أنا معك... وشد علي يدي.. هاتفته مساءً تحدثنا كثيراً، في الصباح عرفت من صديقي طارق الطاهر أنه نقل إلي المستشفي زرته قابلت السيدة الفاضلة حرمه، كانت الدموع تنبيء عن حاله... صديقي جمال... إلي اللقاء أمين عام المجلس الأعلي للثقافة