مازلنا نعيش وتظلنا نسائم ثورة الشباب، التي انطلقت يوم الثلاثاء 52 يناير الماضي.. ولم يكن أحد من جيلنا، جيل الشيوخ، وأجيال الوسط يتوقع أن نري هذه الثورة في حياتنا، فأجيالنا تعودت علي الصمت والخنوع لأكثر من 05 عاما، ورضينا أن نأكل الخبز بالجبن.. مكتفين بلعن وشتم الحاكم سرا، ومدحه علنا.. ومثل هذا النوع من الشعوب لا تستحق الحياة الكريمة. لقد انطلقت منذ ذلك اليوم التاريخي ثورة بيضاء، فجرها شباب غض.. وعلي غير توقع، خرج الشباب إلي الشوارع والميادين يهتفون للحرية.. وللسلام.. والعيش الكريم.. كسروا حاجز الخوف، وجهروا بما عجزنا عنه نحن الشيوخ، وأجيال الوسط ان نجهر به، بعضنا خوفا من البهدلة.. في السجون والمعتقلات، ومن دخلها مفقود مفقود يا ولدي.. والكثرة الكثيرة منا طمعا في ذهب المعز.. جهر الشباب بما يعتمل في صدره من آلام وآمال.. وما يرجوه لنفسه في قابل الأيام، ولأمته.. حياة حرة كريمة.. خرجوا في مظاهرة سلمية إلي ميدان التحرير بوسط القاهرة يحملون أغصان الزيتون رمز المحبة والسلام، يهتفون من قلوبهم وليس من حناجرهم.. المجد لمصر.. الحياة لمصر.. العزة والكرامة لمصر.. للمصريين كافة.. وليس لفئة بعينها استمرأت السلطة والثروة والكسب الحرام وتهريب الأموال، أموال الشعب التي نهبوها إلي بنوك الخارج.. هذا الشباب الغض- لا تسيره تيارات حزبية أو دينية.. بعد يأس الشباب من زعماء الأحزاب، ومن جبروت الحزب الواحد علي مدي 03 عاما.. هذه الأحزاب التي ثبت بالدليل القاطع فشلها، وقلة حيلتها وانعزالها عن الشعب.. أفرادها يتنازعون علي المناصب الحزبية، ويتشاجرون مع بعضهم البعض.. حتي داخل الحزب الواحد أو الجماعة الواحدة.. وفي حقيقة الأمر، هذه الزعامات وهمية، ليس لها رصيد في الشارع المصري.. وما هم إلا مجموعات احترفت النصب السياسي، وأتقنت خداع الناس بشعارات زائفة.. ولما لاحت بوادر ثورة الشباب.. ودون انتظار، رأيناهم عبر الفضائيات يهتفون للثورة.. لعلهم يجدون »خرم إبرة«.. و سط هدير ثورة الشباب ليركبوا الموجة، علي رجاء ان يتصدروا الصفوف، وهم في ظنهم وفي سعيهم واهمون، ولم يبق أمامهم إلا أن يبحثوا عن مكان آخر، ينزوون فيه غير أرض مصر، وان يتركوا شباب 52 يناير يواصلون مسيرة الاصلاح والتغيير وبناء الديمقراطية علي قواعد سليمة.. لقد اتخذ الشباب من يوم 52 يناير مناسبة جليلة.. لانطلاق ثورتهم.. وهو اليوم الذي له في قلوبنا كل إجلال، حيث يحتفل الشعب، يوم 52 يناير من كل عام بهذه المناسبة الجليلة، ذاكرين بكل إعزاز تضحيات رجال الشرطة يوم 52 يناير 2591- الذين قدموا أرواحهم فداء لمصر.. ففي يوم 52 يناير 2591، طلب جنود الاحتلال البريطاني من قوات الشرطة إخلاء مبني محافظة الإسماعيلية، لانها تمثل عائقا أمامهم في تعقب وتتبع فدائيي مصر الذين انتشروا علي امتداد محافظات القناة، والاسماعيلية وبورسعيد والسويس، والذين حولوا حياة الانجليز إلي جحيم.. ورفضت قوات الأمن إخلاء المبني. حماية للشرف العسكري، ودفاعا عن الأرض والعرض، وإزاء هذا الموقف البطولي، لم تمض إلا ساعات إلا وجاءت جحافل قوات الاحتلال وصوبوا نيران مدافعهم ودباباتهم، وحولوا مبني المحافظة إلي ركام.. في هذا اليوم الخالد من تاريخ العسكرية المصرية استشهد أكثر من 58 ضابطا وجنديا، وأصبح يوم 52 يناير يوم عزة وفخار لكل مصري ومصرية. لذلك لم يكن غريبا أن يتخذ الشباب من هذا اليوم مناسبة جليلة لإطلاق ثورتهم السلمية، ثورة الحرية والكرامة الإنسانية.. وأصبح هذا اليوم، يوما فارقا بين الحرية والعبودية، بين الكرامة، والمهانة، بين العزة وبين الاستكانة، ثم حدث ما حدث في الأيام التي تلت هذا اليوم، سقط مئات الشهداء.. وآلاف الجرحي.. الأحداث مأساوية.. انكسر القلب لها من هول ما يحدث ولأول مرة.. ابناء مصر يقاتلون بعضهم البعض، ويعجز القلم عن التعبير عنها. وعندما تكثر الفتن و تشتد، لا أحد أمامي إلا أن ألوذ بصديق عزيز، لا يعرفني، ولكني اعرفه، و لم اشرف بمقابلته في يوم من الأيام، ولكن أقابله في كل حين، لم يحادثني وجها لوجه ولكن احادثه دائما عن بعد.. اتخذته صديقا عزيزا منذ زمن بعيد، فهو أحد المفكرين العظام الذين أنجبتهم مصر الباقية، مصر الخالدة، وأحد الذين تأثرت بهم في مسيرتي الحياتية.. ذهبت أبحث عنه.. استلهم منه الحكمة والرأي السديد، ارتشف من عصارة فكره وتجاربه الثرية التي أودعها مؤلفاته، التي صاغها رحيقا صافيا، انه كاتبنا العظيم توفيق الحكيم.. هرولت إليه، وكان في انتظاري.. وفي تواضع، قدم لي كتابه القيم: »ثورة الشباب«.. وكأنه قد فرغ من كتابته منذ لحظات مع أن الكتاب صدر منذ سنوات طويلة، وكأنه يشاهد ما يجري اليوم علي أرض الواقع، ميدان التحرير أحداث ومآس.. وثورة بيضاء يقودها شباب في عمر الزهور.. وزادني حديثه يقينا ان مصر ستعبر المحنة، والكارثة بسلام.. واستميح كاتبنا العظيم توفيق الحكيم في تقديم بعض آرائه وأفكاره، لعلها تفيد.. وتوضح أسباب ما جري.. وما يجري في مصر في هذه الأيام.. داعيا الله سبحانه وتعالي أن يجنب مصر وشعبها وشبابها وشيوخها ونساءها وأطفالها المحن وان يزيل عنا الغمة، والفرقة والانقسام، ويتوقف نزيف الدم وان تلتئم الجروح، وأن ننخرط جميعا في قوافل البناء والتعمير، وتعود مصر، كما كانت، وكما ستظل بإذن الله. وللحديث بقية.