إن مواقف أهل الرأي التي يجب أن تعلن.. هي التي تكون اثناء الأحداث، وفي صميمها، إذا استطاعوا.. وليس بعدها.. شاهدت، كما شاهد غيري.. وكما شاهد العالم من أقصاه إلي أقصاه، مشاهد مؤلمة.. مخجلة، مخزية، لقد أظهرت مصر بالصوت والصورة مصر الحضارة، مصر التقدم بمظهر التخلف، وأنها لاتزال تعيش في أحضان البغال والحمير والكارو.. ولم تبارح حياة القرن التاسع عشر.. في الوقت الذي يعيش العالم حياة تكنولوجية هائلة.. وتقدما علميا مذهلا غير حياة الشعوب.. إلا نحن.. لقد واجهنا العلم والتكنولوجيا بالكارو.. لقد حزنت علي أم الدنيا أن تهان بهذه الطريقة البشعة.. لقد رأينا، ورأي العالم من حولنا مشاهد مؤسفة، جعلتنا أضحكومة العالم.. رأينا، ورأي العالم أرتالا من الجمال والخيول والحمير والبغال وعربات الكارو، تقتحم ميدان الشهداء، التحرير سابقا، يمتطيها ويجرها أناس لايعرف أحد هويتهم، ومن أين جاءوا.. ومن حركهم بهذا الأسلوب المخزي، أناس لايقدرون المسئولية.. رأيناهم، رافعين السيوف والطوب ويدخلون في معارك مع شباب عزل، جاءوا إلي ميدان التحرير.. يطالبون بالحرية، والحق في العيش الكريم..لقد أدانت شراذم الكارو والبغال والحمير، من حيث لا تدري انجازات ثورة 32 يوليو 2591، وكأنهم يريدون ان يقولوا للعالم ان ثورة يوليو، لم تغير في حياة الناس شيئا.. بل عمقت فيهم الجهل والتخلف.. والإسفاف في التصرفات.. وبهذه التصرفات العشوائية أدانوا النظام، وأهالوا التراب علي الانجازات التي تحققت منذ ثورة يوليو إلي اليوم.. كانوا كالدبة التي هشمت رأس صاحبها ظنا منها أنها تحميه من الاعداء أو معارضيه. لقد خرج دعاة التخريب من جحورهم، لا يلوون عن شئ إلا إخراس أصوات الحرية، المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وحق العيش الكريم، كان هدفهم المقيت أن ينتزعوا من أحشاء الشباب أحلامهم، التي لم تكن أحلامهم لوحدهم، وانما للناس كافة.. لكل المصريين.. وليخمدوا روح الثورة البيضاء إلي الأبد.. ويظل الشعب يرسف في الاغلال والقيود والمهانة. لقد استدعي المنظمون لهذه الكارثة أسلوبا عقيما كان سائدا قبل ثورة 32 يوليو 2591، في التشهير بالخصوم وتكسير عظامهم، عندما كان بعض زعماء الأحزاب يستأجرون البلطجية والصبية مقابل قروش معدودات لمسخرة وتهزئ المعارضين وكبت أصوات المعارضة أو المنافسين لهم في الدوائر الانتخابية، ليخلو لهم الجو، ويتيهوا أكثر.. فأكثر.. ويعيثوا في الأرض فسادا. ولقد صور كاتبنا الكبير الساخر محمود السعدني رحمه الله، هذه المشاهد الباكية في كثير من مؤلفاته.. فقدم صورة باكية و مضحكة، وشر البلية ما يضحك وما يبكي.. وسلط الضوء علي شخصية حقيقية لامرأة برعت في هذا الكار.. وتدعي: »سكسكة«.. سيدة زلفة اللسان.. تخطي صيتها شوارع وحواري وأزقة الجيزة إلي كثير من مناطق القاهرة، يتم استئجارها بأجر مجز لمسخرة وبهدلة الخصوم، بلا ذنب أو جريرة.. سوي إزاحتهم والقضاء عليهم نفسيا.. تطوف الشوارع وحولها صبية، قتلهم الفقر جوعا، وألبسهم ثيابا رثة، وزادهم الجهل والفقر والمرض هزالا ورهقا.. والصبية من حولها يرددون في صوت كالرعد جملة واحدة: »والله ه نقول.. والله ه نكشف المستور«.. ولا شئ أكثر من ذلك ومن جبروتها أن تجبر المقصود بالتهزئ أن يمشي أمامها، ولايملك الرجل إلا الانصياع لتعليماتها.. والانكسار والانزواء والاحتفاء.. تجنبا للفضائح عن اتهامات لم تفصح »سكسكة« عنها.. ان ماحدث في ميدان الشهداء، التحرير سابقا، من هؤلاء البلطجية راكبي البغال والحمير والكارو، لا ينبغي أن يمر ببساطة، ونقول: عفا الله عما سلف.. ونحن »أبناء النهاردة«.. لقد قدموا مصر للعالم في صورة مزرية.. ولوثوا حضارة 7 آلاف عام.. وأظهروا النظام في صورة غير لائقة، أضاعوا انجازاته التي استغرقت زمنا طويلا، في ساعات معدودات.. محاسبة جادة، محاسبة من أعدوا هذه المهزلة.. غير مقدرين عظمة مصر علي مر السنين.. وكل همهم مصلحتهم ومكاسبهم.. وضمان استمرارهم في نهب الشعب والسطو علي أحلامه.. ونترك هذا الأمر، أمر المحاسبة لجهات التحقيق، التي نثق في نزاهتها وفي حرصها علي سمعة مصر.. عبر التاريخ.. وانزال العقاب الرادع يتناسب مع ما ارتكبوه من جرائم بشعة في حق الشباب الاعزل المسالم.. الذي خرج يهتف للحرية.. وللعدالة الاجتماعية.. إلخ وسقط منهم مئات الشهداء وجرحي بالآلاف ارتوت بدمائهم الزكية أرض الميدان.. بلا ذنب جنوه إلا أنهم كسروا حاجز الخوف والصمت الذي ران علينا نحن الشيوخ وأجيال الوسط سنين طويلة. مصر صحراء ثقافية قرأت تصريحا للسيد فاروق حسني وزير الثقافة في صحيفة الأهرام يوم الأربعاء 21 يناير الماضي.. قبل الاستغناء عن خدماته في التشكيل الوزاري الجديد برئاسة الفريق أحمد شفيق رئيس مجلس الوزراء.. يقول فيه: »ان مصر كانت تعاني تصحرا ثقافيا قبل أن يتولي الوزارة منذ 22 عاما.. مضيفا: وعندما جاءني خبر تسلمي للمنصب قلت في نفسي: ماذا أعمل في هذه المصيبة.. ففكرت في دعوة نخبة من مثقفي مصر لمناقشة السياسة الثقافية، وكانت نتيجة هذا كما هائلا من الأنشطة الثقافية التي ملأت الساحة المصرية من مكتبات وقصور ثقافة ومسارح وأوبرا، والآن بعد مرور 22 عاما علي اعتلاء كرسي الوزارة، أصبحنا في حاجة إلي وضع سياسة ثقافية مستقبلية تواكب التغيرات التي طرأت علي المجتمع، ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر العام الأول للمثقفين الذي تحدد له أول مايو المقبل، وأضاف: انه للأسف لا يوجد نقاد في مصر سوي في مجال الأدب. قرأت الخبر مرة ومرات، كلماته مستفزة.. وترمي من سبقوه إلي كرسي الوزارة بالتخلف ولم تزدهر الحركة الثقافية إلا في عهده.. ألم يسمع عن الأديب والكاتب والفنان ثروت عكاشة وانجازاته العظيمة، ألم يسمع عن د. سليمان حزين وتأثيره العميق في مختلف المجالات الثقافية.. كان من الطبيعي ان استرسل في ذكر انجازات من سبقوه في نشر الثقافة، في طول البلاد وعرضها.. واعتلوا كرسي الوزارة عن جدارة واستحقاق.. ولضيق الوقت الذي ضاق، فالأحداث متلاحقة من حولنا، والعالم يري صورة جديدة لمصر تتشكل أمامنا في هذه الأيام.. فكرت في الرد علي الوزير الفنان، في جملة مفيدة، أن مصر علي امتداد تاريخها، لم تكن صحراء ثقافية إلا في عقول المرضي، والذين في نفوسهم أغراض.. وتساءلت: أين المثقفون الذين يملأون الفضائيات صياحا ليل نهار.. ولماذا لاذوا بالصمت.. وأين اتحاد كتاب مصر.. لم نسمع له صوتا إزاء ما قاله فاروق حسني.. ان الصمت علامة الرضا كما يقال.. ولقد عذرت الرجل فيما قال، وما قد يقوله في قابل الأيام.. فقد أحاط نفسه بهالة كاذبة، صنعها له وروجوا لها مدعو الثقافة، الذين أتقنوا ضرب الدفوف من حملة المباخر طمعا في عطاياه.. وبالفعل كان الوزير كريما.. فقد أجزل لهم العطاء وتصدروا الصفوف.. وزينوا له أنه فارس الثقافة المغوار.. وموفد العناية الألهية لانتشال مصر من تصحرها الثقافي التي عاشت فيه لعقود طويلة قبل مجيئه الميمون إلي كرسي الوزارة الذي تكلس فيه 22 عاما وفي ظل هذا الصمت المريب من جانب المثقفين واتحاد الكتاب، وفي ظل هذه الحالة الثقافية المتردية نستطيع ان نقول باطمئنان: »اللي اختشوا....«