من مآسى الزمن الردىء أن يتحول الإيمان بالوطن إلى كفر ومعصية ويصبح من يدافع عن شرفه وكرامته، ويطالب بالإصلاح والتغيير، عرضة للامتهان والضرب من البلطجية، وما حدث يوم الأربعاء الأسود المنصرم، فضيحة سياسية وأخلاقية كتبت شهادة وفاة هذا النظام بلغته المستهلكة وأساليبه الرديئة وأفكاره البالية ومؤسساته الفاشلة وتعاملاته غير الحكيمة مع مواقف سياسية بامتياز، ما حدث يوم الأربعاء الأسود شاهد على صراع غير متكافئ بين نظام يعيش الحاضر بعقلية الماضى عاجز عن أن يحمى نفسه رغم امتلاكه كل مقومات القوة، وشباب أعزل يجيد لغة العقل وتكنولوجيا التواصل، ويحلم بإضاءة مستقبل وطنه بالأمل والإشراق، ما حدث يوم الأربعاء الأسود نكسة حقيقية أقصى وأمر من نكسة يونيو 1967، لأنه لم يكن بين مصر وإسرائيل، وإنما كان بين مصريين ومصريين لحماقة مارستها بعض القيادات البائدة، عندما تصورت أن إجلاء المعتصمين من ميدان التحرير يمكن أن يكون عن طريق الترويع والترهيب عبر مجموعات جاءت على جمال وبغال وخيول وحمير لمهاجمة المعتصمين بميدان التحرير بالأسلحة البيضاء والحجارة... إلخ. ولم يلتفت هؤلاء إلى أن البلطجة فى التعامل مع الانتخابات المزورة لا تصلح فى مثل هذه الظروف مع شباب قرر أن يتحرر، ويكتب لمصر بداية مختلفة ويرسم طريقا مختلفا، ويؤكد أن الزمن تغير، وأن فكر عربيات الكارو يستحيل تطبيقه على فكر شباب ال«فيس بوك»، وأكثر ما يدهشنى تلك المقاومة الغريبة لسنة الحياة، تلك الرغبة فى وأد جيل بالكامل لصالح مجموعة من ضعاف النفوس ومعدومى الانتماء للوطن، التى تبدت فى هذا الصمت الرهيب تجاه تسارع الأحداث وتواترها، وعدم اتخاذ ما يجب من خطوات مناسبة فى الوقت المناسب، أو حتى إصدار مجرد تصريحات من شأنها أن تهدئ خواطر الناس وإنقاذ الوطن من الفوضى، وكأن ما يحدث لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وإلا بماذا نفسر هذا التباطؤ الشديد فى صدور أى تعليقات على ما حدث ولا يزال يحدث ضد المعتصمين فى ميدان التحرير رغم التفاعل السريع من كل بلدان العالم تجاه تلك الأحداث؟ بماذا نفسر تجاوب الرئيس اليمنى السريع مع مطالب شعبه فى الإصلاح والتغيير حقنا للدماء وقبل فوات الأوان، بينما يظل الرئيس مبارك مصرا على عدم الاستجابة السريعة لمطالب المصريين، رغم أن الانتظار سيقود الجميع إلى الهاوية؟ بماذا نفسر الانفلات الأمنى، الذى أفرزه الانسحاب المفاجئ للشرطة فى أول جمعة للغضب قبل وصول الجيش المصرى بثلاث ساعات لتسلم مقاليد الأمن؟ ولماذا هذا التأخر فى محاسبة من ارتكب هذه الجريمة النكراء؟ أين من كانوا يصدعون رؤوسنا بالفكر الجديد وأمن مصر وأنه ليس على رأسهم بطحة كى يتواروا؟ هل ابتعدوا عنك عزيزى القارئ (من أجلك أنت)؟ ألم يكن من الأولى بهم وجودهم إلى جوارنا فى مثل هذه الظروف الصعبة مثلما كانوا معنا سابقا فى تصفيات كأس العالم وكأس أفريقيا؟ بماذا نفسر عدم خروج أى مظاهرة لتأييد الرئيس مبارك إلا يوم الأربعاء الأسود، وبعد أن رفض المعتصمون بميدان التحرير التعاطى مع ما قاله الرئيس رغم أهميته؟ ثم لماذا لم يحرص منظمو تلك المظاهرة على أن تكون فى مكان آخر كى يراها العالم محترمة مثلما رأى المظاهرات المناهضة للرئيس؟ وهل يعقل أن تكون هناك مظاهرة فى الدنيا تحاصر المتظاهرين، وتستخدم البنادق والهراوات والعصى بهذه الكفاءة؟ من المسؤول عن تأخر سيارات الإسعاف أكثر من ست ساعات عن الوصول لإنقاذ الجرحى وإجلاء الشهداء؟ وفى رقبة من دم هؤلاء؟ أين الفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء الجديد، الذى قال لأحد البرامج الفضائية صراحة (برقبتى لو تعرض أحد للامتهان) ألا يعتبر سيادته أن ما حدث يوم الأربعاء الأسود امتهاناً يجب أن تضيع فيه رقاب؟ ولماذا التزم هو الآخر الصمت تجاه تلك الأحداث الدامية مدة يوم كامل؟ هل سيلتزم المنهج العقيم نفسه فى التعاطى المتأخر وفى التعامل مع التطورات؟ يا سادة كان من الممكن إعادة المعتصمين من ميدان التحرير بالعقل وبالحوار، أو بإعطائهم الفرصة فى تنظيم أكبر للمظاهرات فى فترات زمنية محددة تسمح للحياة بالاستمرار، وعدم تعطل مرافق الدولة، لكن تشبث الخائفين من سير الحياة فى إطارها الطبيعى فرض على المتظاهرين التشبث بوجهة نظرهم، والنتيجة خسرت مصر وربح أعداء الوطن، وبقى ما يشغل الجميع سؤال واحد: بعد نكسة الأربعاء الأسود، إلى أين ستتجه سفينة الوطن؟