الإسلام انتشر في العديد من الدول، وخاصة الإفريقية منها، لما رأوه شعوب تلك الدول من حسن خلق لدي التجار المسلمين، فكانوا خير دعاة لدينهم. من المميزات العظيمة للدين الإسلامي، أنه لاتوجد فيه سلطة كهنوت، ولايوجد فيه أحد يمارس سلطانه علي المسلمين باسم الدين، أو يحتكر الإسلام لنفسه، فتجده يقول «أنا الإسلام»، ومن يفعل ذلك فإنه يعطي لنفسه حقًا لم يمنحه أحد له، فليس لأحد أيًا ما كان أن يفرض علي الناس فهمه للدين، لأن الإسلام لا يمارس أبدًا القهر علي أتباعه المؤمنين به، أو حتي المخالفين له، بل إن الله تعالي أرسي قاعدة قرآنية مهمة حتي لايدع الفرصة لأحد أن يمارس ذلك، تتمثل في الآية الكريمة «ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، فهو أعطي مطلق الحرية لمن أراد أن يؤمن به أو لا يؤمن. فيه من المرونة ما لا يوجد في أي دين آخر، ينظر إلي مفهوم العبادة نظرة أوسع وأشمل، فهي ليس مجرد خمس صلوات يومية، أو صيام وأداء حج وزكاة فحسب، بل الإسلام في جوهره «دين معاملة» لايفصل المعاملات بين الناس في حياتهم عن العقيدة، فهما صنوان واحد، فتجده يحث علي أداء الأمانات بين الناس «أدوا الأمانة لمن اؤتمن»، ويضع قواعد لنسير عليها في دنيانا، فلا جور ولا ظلم، ولا إهدار للعدالة. هو دين لا يحتقر الحياة كما يظن البعض خطًأ، بل يجعل لها مكانة متميزة، ويربط بين إعمار الأرض والمهمة الأساسية التي من أجلها نزل آدم أبوالبشرية إلي الأرض «الخلافة في الأرض»، يفهم ذلك الإنسان البسيط الذي يعمل في الحقل بجد واجتهاد ويعتبر نفسه في عبادة، لأن «العمل عبادة»، وتجده أيضًا حريصًا علي الصلاة في وقتها، يصوم رمضان، مؤديًا لزكاة ماله، ملبيًا نداء ربه إلي الحج إن استطاع إليه سبيلاً، يفعل كل ذلك دون تعقيد، وكأنه يجسد حقيقة أن الدين ليس في خصومة مع الحياة. ربة المنزل، المرأة البسيطة التي تحب الله، والحريصة علي الالتزام بدينها عبادة وسلوكًا هي متدينة، وليس فقط الشخص المتعمق في الدين، المعلم أو المعلمة الذي يربي أجيالاً علي قيم ومبادئ الإسلام، وليس فقط خطيب المسجد، لا فضل لا أحد علي أحد إلا بعبادته «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، «لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي»، وغيرهما من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تؤكد علي هذا المعني الغائب عن الكثيرين منا، وهو أن الإسلام دين شعبي. النبي صلي الله عليه وسلم يقول لأصحابه ومن يأتي بعدهم أجيالاً وراء أجيال حتي يوم الدين: «إذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم ومن شذ شذ في النار»، إذن هناك حلول فيها اتفاق جماهيري وهناك حلول فيها اختلاف شديد، وإذا تبنيت الحلول الخلافية فأنت الذي ستفشل، لأن فيها عوامل القضاء عليها، لأن الإسلام دين شعبي للناس كل الناس: «لا تتفق أمتي علي ضلالة». إذا أردنا أن نحافظ علي إيمان الأجيال القادمة قبل أن يفقدوا إيمانهم لابد أن نعيش بفكرة أن الدين جزء من الحياة وليس ضد الحياة. وإذا كنا نقول مثلاً: الشعب المصري شعب متدين؟، فإن ذلك يعني أنه يحب أن يكون الدين جزءًا من حياته وليس ضد حياته، لأن ذلك هو بداية التشدد، ويفقد الإسلام فاعليته الحقيقية كدين يعلي من قيمة الحياة، فلا يوجد ما يمنع أن تكون إنسانًا متدينًا، وتعمل في الوقت ذاته لتكون إنسانًا ناجحًا في الحياة. الإسلام دين لكل الناس وليس لفئة أو جماعة أو حكرًا علي تيار ديني معين يجعل المختلفين معه خارجين عن الإسلام، وفي أفضل الأحوال غير مكتملي الإيمان، وعندما يأتي تيار متشدد مثل «داعش» ويقوم بعمل كيان ويقول: «أنا الإسلام» فإنه يسعي بذلك إلي احتكار الدين لنفسه، ويجعل من فهمه الضيق للإسلام هو الأساس الذي يجب أن يسير عليه الناس، مانحًا لنفسه الوصاية ليس فقط علي المسلمين، بل علي البشرية جمعاء. لكن الحقيقة أن كل من أسس كيانًا موازيًا للإسلام يفشل دائمًا، لأنه يصطدم بذات الإسلام، وهو يريد أن يختزل الإسلام في فكرة وحده ويري أنه فقط من يمثل الإسلام فيعتقد أنه الإسلام وهو ليس كذلك، إذ أن عظمة الإسلام أنه دين شعبي وكل من يفعل ذلك يصطدم بالإسلام ويزول عبر التاريخ، وهو دين أرسل للناس كلها «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» ولم ينزل إلي جماعة بعينها. الإسلام مثل نهر جار بين شطين واسع يحمل داخله آراء متعددة ووجهات نظر كثيرة وليس خطًا مستقيمًا ضيقًا، جمال الإسلام وحلاوته في أنه يسري سريان الماء في الورد، إذن فمن يصوره للناس أنه ضد الحياة فهو ليس بفاهم للدين أصلاً أو أنه ينفر الناس منه، لأن الدين في حقيقته ليس ضد الحياة. والسؤال: كيف نجسد حقيقة أن الإسلام دين شعبي؟، هذه مهمة كل مسلم لديه من الوعي والفهم لذلك، ليجعل من نفسه نموذجًا للآخرين، بعيدًا عن طرق الوعظ التقليدية، عندما يكون منضبطًا في عمله يؤديه بكفاءة واجتهاد، لايتكاسل عن أداء المطلوب منه، ذا خلق طيب في تعامله مع الجميع، منفتحًا علي الآخرين، يترجم سلوكيات الإسلام في ممارسات حياته اليومية، ليس مطلوبًا منه أكثر من ذلك. عندما نري مسلمين حريصين علي دينهم، وفي الوقت ذاته ناجحين في حياتهم، يقيمون الدين ويعمرون الكون، أمثال هؤلاء هم الذين يترجمون جوهر الدين بصورة عملية بسيطة، فعندما نري رجل أعمال مسلم ناجحًا يتعامل وفق قيم الإسلام ومبادئه في عمله وفي حياته، فإنه يجسد حقيقة أن الإسلام ليس ضد أن تكون ناجحًا في الحياة، وعندما نري إنسانًا بسيطًا يكافح بشرف يسعي وراء «لقمة العيش» بجد واجتهاد، ويقدم صورة للإنسان المسلم الذي يسعي لأن يكون إنسانًا ناجحًا في الحياة، فهو يؤكد ذلك المعني ببساطة ووضوح. الإسلام انتشر في العديد من الدول، وخاصة الإفريقية منها، لما رأوه شعوب تلك الدول من حسن خلق لدي التجار المسلمين، فكانوا خير دعاة لدينهم، بينما هم يمارسون أعمالهم ويشتغلون بتجارتهم، حين جسدوا الإسلام في تعاملاتهم مع غيرهم، هذا هو المطلوب منا جميعًا أن نظهر الإسلام في كل تصرفاتنا، وليس فقط في أداء العبادة، حتي نؤكد للجميع أن الإسلام دين شعبي ليس حكرًا علي أحد، وألا ندع الفرصة لأحد أن يشوه صورته الناصعة، وهو يمارس تصرفات تضر بالإسلام بأكثر ما تفيده. ثقافة الحوار.. لا الضجيج ليس المقصود من دعوتنا إلي الانطلاق من أجل «تجديد رؤيتنا للدين»، أننا نريد هدم «الثوابت»، أو أننا ندعو إلي ثورة علي المفاهيم التي ترسخت في الأذهان علي مدار سنوات طويلة، بل هي دعوة إلي ضرورة البحث والتنقيب في الدين لاكتشاف كنوز وجواهر جديدة في بطونه وأعماقه، وأن نتغلب بشكل جاد علي الموانع التي تحول دون تحقيق ذلك، سواءً كانت فكرية أو نفسية أو أخلاقية، من خلال الحوار المستمر. إذ لا يمكن أن نغفل أهمية الحوار، الذي يعد الوسيلة الأساسية للتجديد، والقرآن كتاب الله الأعظم، كتاب حواري، يحتوي علي كل أنواع الحوار، بين الآباء والأبناء، الأديان المختلفة، الحاكم والرعية، القائد وجنوده، حتي إبليس مع الله.. أعطي الله له مساحة للحوار. وإذا لم نتحاور بانفتاح وبسماع للأفكار مثل القرآن، فإن ذلك سيؤدي إلي حدوث عنف وتطرف أو إلحاد، لكننا أصبحنا لانقبل الحوار، ليس في الدين فقط، بل في حياتنا عمومًا، وأًصبح الحوار في بلادنا عملة نادرة، بعد أن استبدلنا ثقافة الحوار بثقافة الضجيج.. ثقافة الصوت العالي. وما حدث من جدل حول صحيحي البخاري ومسلم ما هو إلا نموذج من هذا النوع الأخير، فلا يمكن بحال أن يتم تناول قضية بهذه الخطورة علي شاشات التلفزيون، وأمام شرائح مختلفة من الجمهور، والنقاش حول قضية كهذه مكانه قاعات البحث والدراسة، عن طريق الحوار بين الباحثين والدارسين، حتي لا يؤدي ذلك إلي التشويش علي غير المتخصصين، وتحدث البلبلة في المجتمع. الضجيج بديلاً للحوار ثقافة الضجيج ظاهرة قديمة جدًا منذ بداية البشرية، تزيد كلما قل الحوار والتجديد وتقل كلما زاد الحوار والتجديد، الراعي الرئيسي لها هو إبليس «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا»، فهو يجعل الصوت العالي والصياح والجلبة وسيلة من وسائل اختلال الخلق، لأن الضجيج يفقد الإنسان التركيز والهدوء النفسي فيسهل تضليله. والقرآن وصف كفار قريش قبل الإسلام وطوافهم بالكعبة قائلاً: « وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».. صياح وصفير وتصفيق.. لماذا؟.. حتي لايفكر الإنسان، لأن فكرة عبادة الأصنام لا ترتاح لها النفوس فالحل أن يصاحبها ضجيج، وبعد أن جاءهم الإسلام، نفس الطريقة « وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَ، ذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ»، علوا صوتكم عليه لتشوشوا علي من يسمع. إنها ثقافة الضجيج التي لا يبقي معه فرصة لدليل عقلي ولا تأمل ولا تدبر، فتنشأ العقلية الهشة التي لا تستطيع أن تفهم ولا أن تتدبر معناه، ولا أن تري الواقع علي ما هو عليه؟ إذا ما تتبعنا الصوت في القرآن الكريم، ورأيناه في جانب المفسدين ضجيجًا وجلبةً وصيحةً، فقد جعله الله أيضًا علامة علي العذاب «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ».. كانت الخصومة كلها صوت عال وضجيج فجاء الجزاء من صنف العمل صيحة. فيما يحذر القرآن من الضجيج والصوت العالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ»، «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ»، «حَافِظُوا عَلَي الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَي وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»، أي أن تكونوا خاشعين. يقول لقمان لابنه وهو يعظه: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»، القصد في المشي هو وجود هدف وقصد في الحياة، وصوت الحمير كناية عن ثقافة الضجيج. ويجعل الله سبحانه وتعالي في المقابل «الهمس» علامة جلال ومهابة فيقول: «وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا»؛ «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ»، ثقافة الضجيج ذي العقلية الهشة أم ثقافة التدبر والحكمة؟ وفي الدعاء لا ضجيج.. يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَي أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَي جَدُّهُ»، علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف نهدأ، وأن الضجيج ظاهرًا وباطنًا ممنوع في ديننا. إنها طريقة حياة وطريقة تفكير. كيف نتعامل مع هذه الجدلية؟ من خلال الحوار حول فكرة الحق والواجب، كما في قصة النبي والرجل الذي جاء يطالب بمال الزكاة.. الدول في بدايتها: الواجب قبل الحق «أوروبا كانت واجبًا بلا حق». تمر الدول ب 3مراحل: واجب بلاحق، واجب قبل الحق، توازن بين الحق والواجب. اجتماعيًا: المراهق يتمرد علي قيم أهله ليتأكد بنفسه من قيمه هو وعادة ما يعود لقيم أهله.. لاتشوش عليه، فهل لا ننصحه ولا نحاوره؟. كان هناك أب وأم، وكان لديهما ابن في السابعة عشرة، وكان ابنًا عنيدًا جدًا وعصبيًا جدًا. فلم يجدا وسيلة للتحدث معه إلّا بالكتابة. كانا يكتبان له رسائل ويضعانها له في مكان نومه، وكانا يكتبان علي الظرف: «اقرأها عندما تكون وحدك». وكان يقرأ الرسائل كل يوم. يقول الابن: كنت أنتظر كل يوم الرسالة من أبي وأمي، وعندما كانت الرسالة تتأخر كنت أحزن كثيرًا. ويقول: مرت فترة المراهقة بسلام بسبب هذه الرسائل. لا غني إذن عن الحوار بين البشر، لأن البديل حينئذ يكون العنف، والقرآن عندما دعا النبي إلي تبليغ الرسالة كان عن طريق محاورة الناس بالرفق واللين، «ادْعُ إِلَي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، هكذا يدار الحوار مع الآخر بعيدًا عن التشنج والتعصب، «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، وهكذا تكون النتيجة: «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا».