«هيدجر» من أكبر الفلاسفة الألمان في القرن العشرين. فيما يلي شذرات من نص «ما هو الشيء؟» ترجمة الدكتور عبدالغفار مكاوي: الأبعاد كلها في الزمان والمكان تنكمش المسافة التي كان يقطعها الإنسان في شهور وأيام طويلة، في الصحراء علي ظهر جمل، وفي الطريق الزراعي علي سرج حمار يعبرها اليوم في مقعد مريح بالطائرة في بضع ساعات. الخير الذي كان يحتاج منه إلي سنين طويلة قبل أن يسمع به قد يعيش ويموت وهو لا يدري عنه شيئا. يستطيع اليوم دون أن يغادر باب بيته أن يدير مفتاحا صغيرا في جهاز إرساله الأنيق فيعرف أخبار العالم كله في لحظات قصار. غير أن المشكلة مع ذلك مازالت باقية، فانكماش البعد لم يقربنا من القرب نفسه، وأبعد الأشياء التي قربتها لنا الصورة في الفيلم، والصوت في المذياع، يمكن أن يظل بعيدا عنا، وأبعد ما تستطيع العين أن تراه، والخيال أن يتصوره، يمكن مع ذلك أن يظل قريبا منا. ما هو ذلك الشيء الذي اختزلنا في سبيله المكان إلي أقصي مداه. ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا، أحلنا من أجله الأعوام والشهور إلي لحظات ولم يزل ممتنعا علينا، أبعد ذلك كله يظل عنا بعيدا، أم ياتري هو بطبيعته بعيد وقريب في آن واحد؟ هل كان آباؤنا وأجدادنا أقرب إلي الوجود والموجودات منا اليوم؟ أم هل أبعدتنا هذه الأجهزة القادرة عن حقيقة الوجود والموجود؟ لنسأل معا: ما حقيقة القرب؟ كيف نصل إلي كنهه وما هيته؟ يبدو أنه لن يتركنا نتسلل إلي سره بسهولة؟ فلنفتش إذن عما يدخل في دائرته. لنبحث عما هو قريب، قريب منا ما تعودنا أن نسميه بالأشياء، ولكننا مضطرون أن نسأل مرة أخري: وما هو الشيء؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء، ولكن لعل الإنسان في تاريخه الطويل قد أهمل في السؤال عن حقيقة الشيء. فلنق أنفسنا إذن من التورط في حكم سريع. ولنعد السؤال مرة أخري: كيف نصل إلي شيئية الشيء؟ وما الذي يجعل الشيء شيئا؟ ولابد لنا لكي نجيب عليه أن نعرف الدائرة التي يدخل فيها كل موجود نسميه باسم الشيء. ا لحجر علي الطريق شيء. وكومة التراب في الحقل. الجرة شيء والنبع في الصحراء. ولكن ما حال اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هذان أيضا شيئان. كما أن السحب في السماء أشياء، وأوراق الخريف في مهب الرياح، وشجرة الصبار علي الدرب المهجور. بل لعل من حقها جميعا أن تكون أشياء، ما دمنا نضيف الكلمة نفسها إلي ما لا يظهر ولا تراه عين. ما سأل سائل عن ما هية الوجود والموجود إلا وبرز الشيء أمامه كأنما هو أظهر الموجودات وأولاها بمعني الوجود، وقد أدي هذا إلي أن أصبحت الإجابات المتوارثة عن ما هية الشيء أمرا بينا واضحا بذاته، حتي أنه ما عاد أحد يحس بالحاجة إلي إثارة السؤال من جديد. - عن كتاب «مدرسة الحكمة» للدكتور عبدالغفار مكاوي، صدر عن دار الكاتب العربي.. القاهرة 1975.