أيهما أشد قسوة: الألم النفسي أم الألم العضوي؟ الحقيقة أنهما ليسا نوعين من الألم، بل هما ألم واحد يتسرب من النفس الي الأعضاء، ويتسرب من الأعضاء الي النفس، فليس الإنسان أعضاء فقط، ولكنه أعضاء ونفس، وفي عبارة أخري ليس الانسان مادة فحسب، ولكنه مادة وروح، وقد حاول الانسان في العصر الحديث التركيز علي أمراض النفس علي أنها الأشق، والمدخل لأمراض الأعضاء، وكانوا فيما مضي يركزون علي طب الأعضاء باعتباره الوسيلة الي راحة النفس، وحاولوا دراسة النفس وقسموها الي دراسات لا حصر لها، فهناك علم النفس الاجتماعي والاقتصادي والجنائي والصناعي والزراعي، وهناك أمراض النفس الوراثية والأمراض الطارئة، والأمراض المزمنة. وما حدث في طب النفس، حدث أيضا في الطب البشري، فقد توسعوا فيه، وتخصصوا، فجعلوا من كل عضو علما أو تخصصا، فهناك أطباء للقلب، وللدورة الدموية والشرايين، وللكلي وللكبد، وللأعصاب، وللأنف والاذن والحنجرة، والعينين والقدمين والاطراف، ومن طب الأعضاء انتقلوا الي طب النفس، وايقنوا أن الفصل بين الاعضاء والنفس سياسة فاشلة، والصحيح أن الإنسان كيان واحد، لا سبيل الي فصله الي كيانات متعددة. وكما اضطربوا في التقسيم اضطربوا في التسمية، جعلوا للنفس طبا وأطباء، وجعلوا للأعصاب طبا وأطباء وجعلوا للروح طبا وأطباء، ما هي النفس وماهي الأعصاب.. ما هي الروح وما هو الجسم، ما هو تكوينه، وما هو دور النفس أو الروح في تصرفات الانسان؟ لم يضعوا حتي الآن حدودا يثقون فيها بين هذه الأشياء جميعا، بل ما هو الألم وكيف يقع وينتشر، ويشتد أو يلين، هل هو من الأعصاب أو من الأعضاء أو من النفس أو من الروح أم هو منها جميعا. وبين هذه الدراسات حول الانسان وجسمه ونفسه وروحه وأعصابه وكيانه، بدأ التفكير: ما هو الانسان كيف وجد، ومن أين بدأ والي أين ينتهي، ما هي غرائزه، ما هو خير فيه وما هو شر، وما هو أصيل وما هو مكتسب، وهل ما يوجد نتيجة وراثات، أم أنه يولد صفحة نظيفة من غير وراثات؟ ووسط كل هذه الدراسات وعلامات الإستفهام، نبع التساؤل الأول عن وجود قوة عليا خالقه ومنشئة.. وما هي هذه القوة؟.. وانقسم الفلاسفة والمفكرون والعلماء في شأنها الي فريقين: فريق آمن بوجودها، وسلم بقدرتها، وفريق انكر وجودها، اما الاولون فكان إيمانهم راجعا الي درس وفهم وعلم، أما المنكرون فكان انكارهم راجعا أيضا إلي درس وفهم وعلم رأي الاولون في الايمان حلا لمشكلات كثيرة، وعزاء من آلام كثيرة والتخفيف من متاعب لاحصر لها، ورأوا فيها علاجا وأمنا وراحة نفسية. اما الفريق الآخر المنكر فاعتصم بالعلم المجرد القائم علي السبب والنتيجة والمحسوس، فضلوا ضلالا كبيرا، وازدادوا حيرة وضياعا، وعجز العلم المجرد من أن يعطيهم ما أعطي الإيمان أصحابه من طمأنينة ورضا وسلام. كان الإيمان بالله والروح وما وراء الطبيعة منهجا يتفق وطبيعة الإنسان وفطرته وضعفه إزاء الكون، وحيرته في حل ألغازه وطلاسمه، وكانت الأديان سواء منها السماوية أو غير السماوية، استجابة لحاجة أصيلة في نفس الإنسان، وقد إنتشرت في هذا العصر موجة من الافكار، انبهر أصحابها بما حقق العلم من انتصارات، وانتشرت اكثر بين الشباب صغير السن، قليل التجربة، سطحي النظرة، ولكن لا يمكن أن تكون هذه الانتصارات العلمية رغم ضخامتها وروعتها، تقترب من المشكلات الأساسية في الحياة، كيف وجد الانسان؟ من أين وإلي أين؟ أسرار النفس والروح والوجدان؟ الألم الذي ينتابه؟ القلق الذي يشمله؟ الحيرة التي تطغي عليه وتجعل حياته عذابا؟ هل اجترأ العلم أو استطاع أن يكشف شيئا منها؟ لا.. بل لعله زاد منها حين عامل الانسان علي أنه مادة فحسب، وأهمل الروح، فأهمل الجزء الأكبر من الوجود، أعني أهمل جوهر الحياة! ولنعد الي الألم النفسي والألم العضوي، وأيهما أقسي، ويبدو أنه لابد لي أن أتساءل: ماذا يريد الانسان من الحياة، وماذا تريد الحياة منه؟ يريد الانسان من الحياة أن تجري علي هواه.. رخاء.. رقيقة الملمس، أشبه بمن في أصبعه خاتم الملك، أو مصباح علاء الدين، ليس عليه الا ان يطلب وليس لها إلا أن تجيب، وتريد الحياة من الانسان أن يجري علي سنتها، ليس فيها العطاء من غير أخذ، وليست له وحده، الحياة للجميع، الألم بعض طبيعتها، ولكنها جعلت مع الألم الراحة منه، والحياة لا تنتقم من أحد، ولا تحابي احدا، والهبات التي تمنحها تأخذ بدلا منها، فإن من نواميسها التوازن، أنظر الي العواطف والانفعالات والأمراض والكوارث والمصائب، وانظر ايضا الي المفاجآت السارة والأحداث السعيدة والآمال التي تتحقق، وهي ايضا من طبيعة الحياة، ألا تري أنها في توازن، وأنه ناموس من نواميسها. إذا عرفت ماذا تريد من الحياة، وماذا تريد الحياة منك، استقام أمرك معها، واستقام أمرها معك، ولكنك كلما تعرف ماذا تريد، واذا كانت الحياة تعرف طريقها لأنها محكومة بنواميس ثابتة لا تتغير، فإنك قلما تعرف طريقك، لأنك تتراوح بين الأماني والآمال، فأنت تحس دائما حتي وأنت في قمة السعادة أن ثمة شيئا ينقصك، ما هو هذا الشيء، لا تستطيع تحديده، لأنه غالبا ما ينبع من شعور غامض، إن الحياة ناقصة دائما، وستظل ناقصة الي ان تنتهي دون أن تكمل، وهي تكمل بانتهائها، ولكنها لا تكمل في وجدانك وشعورك، إنما يشعر بهذا الكمال في الوجدان والشعور من يؤمن إيمانا مطلقا وثيقا بالله، ولكن قل من يؤمن هذا الايمان، ومن هنا كان القلق والخوف والشعور بأن في الحياة شيئا ناقصا، كل شيء في الحياة يمكن التغلب عليه بالايمان، حتي الألم، يمكن أن يقل الشعور به أو ينعدم إذا كان القلب مملوءا بالإيمان!