وقفة مع النفس.. هذا هو ما نحتاجه جميعا كمصريين، في لحظة، يترتب عليها مستقبل شعب ومصير وطن. وقفة لتأمل المشهد الذي تتابعت فصوله نهار وليل أول أمس في مناطق عديدة علي أرض هذا البلد، من أجل إدراك بواعثه، واستيعاب دلالاته. وقفة للنظر فيما هو أبعد من مواطئ أقدامنا، ترنو بوعي إلي ما يدور حولنا في هذه المنطقة المضطربة، وتتنبه لما يحاك ضدنا من مؤامرات، تتحوط لما يراد لهذا البلد من مصير، تعربد في جنباته فوضي، عجز عن تحقيقها الأعداء بسلاح العدوان، وفشلت في الدفع إليها قوي الهيمنة بضغوط سياسية وأمنية ودعائية، فاستدارت لتنفذ إلي أهدافها عبر ثغرات اجتماعية. مطلوب منا جميعا.. مواطنين ومسئولين، وقفة مع النفس، للحذر وللمراجعة .. للتوحد والالتفاف تحت راية الوطن.
ما جري من مظاهرات في عدد من محافظات مصر، هو في رأيي دليل حيوية مجتمع، وشباب أمة، وهو أيضا نتاج مناخ حرية رأي وتعبير كفلها الدستور، وانفتحت نوافذها علي مصاريعها دون مواربة، منذ أعلن الرئيس مبارك مبادرته بجامعة المنوفية، قبل قرابة 6 سنوات مضت، ليصبح من حق الشعب لأول مرة انتخاب حاكمه من بين أكثر من مرشح. الوقفات الاحتجاجية والمسيرات السلمية، ليست جديدة علي المشهد السياسي في الشارع المصري، فقد غدا هذا الأسلوب في التعبير الاحتجاجي خلال السنوات الأخيرة سمة لعرض مطالب فئوية، وأحيانا شخصية، أمام مجلس الشعب أو مقر مجلس الوزراء، وعلي سلالم نقابة الصحفيين وساحة مدخل دار القضاء العالي. في هذا السياق.. سمحت وزارة الداخلية بخروج المسيرات يوم الثلاثاء الماضي، وأعطت الإذن لها كوسيلة مشروعة للتعبير عن الرأي في مجتمع حر. خرجت المسيرات في عدد من المحافظات، في ساعات النهار، سلمية هادئة، حضارية، يرفع فيها المتظاهرون أعلام مصر.. طافت بشوارع وميادين في العاصمة وبعض مدن الأقاليم.. تحيط بها قوات الأمن تحميها، وتحافظ في نفس الوقت علي المنشآت العامة والممتلكات الخاصة، كان المتظاهرون يطالبون بمطالب عادلة، أبرزها كبح الغلاء، ورفع الأجور، ومكافحة البطالة، ومحاربة الفساد، وهي كلها مطالب في صلب تكليفات الرئيس مبارك للحكومات المتعاقبة، ومنها الحكومة الحالية، تدعو إليها الاتحادات والنقابات، وينادي بها نواب الأغلبية والمعارضة.. هي باختصار حديث كل منزل.
كانت المظاهرات عفوية، نتاج تدافع شباب يفور حماسا ويحمل مطالب، فلا يستطيع حزب معارضة، ولا حركة احتجاجية، ولا جماعة غير شرعية، الادعاء بقدرته علي تحريك الشارع المصري، ولن يصدقه أحد لو زعم، بل لعلني أقول إن كل هؤلاء فوجئوا بجموع وحشود المظاهرات. وبين انتهازية بعض الأحزاب ورغبتها في الثأر من نتائج انتخابات مجلس الشعب، وعشق بعض الشخصيات المعارضة للأضواء وتصدر المشهد والصورة، تسللت عناصر جماعة الإخوان المسلمين بتكليفات من قياداتها لركوب الموجة واختطاف المظاهرات فاندست تلك العناصر وسط المتظاهرين لتهييج الحشود، وتحويل المظاهرات السلمية إلي أحداث شغب. وهكذا.. وجدنا المطالب تتواري، وشعارات أخري تتردد، وشاهدنا الأحجار تقذف علي رجال الشرطة، بل وكرات اللهب تلقي علي جنود الأمن المركزي في السويس، وكان حصاد الشغب استشهاد 4 مواطنين مصريين، 3 مدنيين في السويس، وجندي في القاهرة، وهو أمر يحرق قلب كل مصري، لأن الدماء المصرية غالية.. إذا سالت، فيجب أن تكون في ساحة قتال ضد عدو دفاعا عن الأرض وذودا عن التراب الوطني. أقول مجددا إن المطالب التي رفعتها المسيرات السلمية في الصباح وحتي العصر، هي مطالب اجتماعية عادلة ومشروعة، لكن الذي جري منذ الثالثة عصرا.. ساعة الصفر الإخوانية.. من تعد علي جنود شرطة غلابة وإتلاف لممتلكات عامة من أموال الشعب وممتلكات خاصة لعارقين من أبناء الوطن، يجب أن يدفعنا إلي الحذر والانتباه إلي محاولات اقتياد البلاد إلي فوضي تحرق الأخضر واليابس، يرعي فيها أصحاب الأجندات متعددة الجنسيات لتحقيق مصالحهم في القفز علي السلطة، حتي لو كان فوق أشلاء شعب ووطن، وحتي لو كان ذلك يحقق أهدافا لاعداء مصر استعصي عليهم بلوغها عبر الحروب والمؤامرات.
نحن في حاجة الي قراءة متفحصة لما يدور من حولنا، في الغرب والشرق والجنوب علي امتداد المنطقة العربية، لنعرف أن خطة التقسيم والتفكيك وسيناريوهات نشرالفوضي الخلاقة، أخذت طريقها للتنفيذ بنشاط، وصارت تتجه لتحيط بمصر وتضعها في دائرة الاستهداف المباشر. فشلت الولاياتالمتحدة ومن ورائها اسرائيل في تحجيم الدور المصري في المنطقة العربية. رفضت مصر غزو العراق، ورفضت سيناريوهات تقسيمه، ورفضت مصر ان يتحول دورها من طرف مطالب بالحقوق الفلسطينية وداعم للفلسطينيين، إلي مروج للأفكار »الإسرا أمريكية« التي تريد فرض سلام صهيوني علي العرب. لم تقبل مصر بإملاءات أو ضغوط، ولم تقبل بأن تكون طرفا في معادلة علي حساب المصالح العربية، ولم تقبل أن تقام علي أراضيها قواعد عسكرية. في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، لجأت الإدارة الأمريكية إلي ممارسة ضغوطها علي مصر لتغير سياستها الخارجية مصرية الصنع ووطنية المقصد وعربية الانتماء وتصبح جزءا من منظومة »شرق أوسط كبير« أو »شرق أوسط واسع« يرضخ للمصالح الأمريكية علي حساب المصلحة الوطنية ووضعت إدارة بوش ضغوطها في غلاف براق هو نشر الديمقراطية وحقوق الانسان. لكن صلابة القيادة المصرية ظلت حجر عثرة في سبيل تحقيق الأهداف الأمريكية علي حساب المصالح الحيوية المصرية والحقوق العربية. ويبدو مما يجري منذ شهور وأسابيع أن مصر قد نقلت من نطاق الاستهداف غير المباشر بغرض التأثير علي سياستها الخارجية، إلي دائرة الاستهداف المباشر لجبهتها الداخلية، من أجل زعزعة استقرارها حتي تنكفيء علي ذاتها وتتقوقع، بل ربما يكون المقصد هو ضرب دعائم الدولة المصرية ذاتها، ولاشك أن أقواها هو وحدة شعبها وتلاحمه وتماسكه الاجتماعي. حتي الآن .. فشلت مخططات قوي الهيمنة العالمية وأحلام قوي العدوان والتغلغل الإقليمية، في استثمار جريمة تفجير كنيسة القديسين وما سبقها من حوادث متفرقة ارتدت رداء الطائفية، لتفجير وحدة الشعب المصري. لذلك علينا أن تحسب ونحتاط لأزمات قد تصدر إلينا، أو أخري قد تستغل لتنفيذ هذه المؤامرات.
أقول إن واجبنا الوطني كمواطنين ألا نعطي لهذه القوي السلاح بأيدينا لتسدد منه الطلقات إلي قلب المجتمع، حين لا ندرك الفرق بين حرية التعبير وبين الانزلاق نحو هاوية الفوضي، وحين لا نتنبه إلي أجندات القوي غير الشرعية وأعني بها جماعة الاخوان غير المشروعة، التي تسعي إلي ركوب الموجة والسطو علي أي وسيلة تعبير جماهيرية وتحويل مسارها نحو الشغب والقلاقل من أجل تحقيق أوهامها في اقتناص السلطة. أقول ان علي السلطة التنفيذية مسئولية أكبر. واجبها - وأظنها تفعل - أن تتخيل السيناريوهات المحتمل حدوثها التي تستهدف مصر، بقطع الطريق عليها والحد من تأثيرها. واجبها - ولابد أن تفعل - هو مراجعة بعض الأمور التي تساعد في تحقيق الاستقرار وتلبي المطالب العاجلة للمواطنين وعلي رأسها الموازنة بين الأجور والأسعار. واجب هذه الحكومة - ومن سيأتي بعدها - أن تشعر أكثر بالمواطن.. فالمواطن المصري تحمل كثيرا وعن طيب خاطر في سنوات الحروب والأزمات وإعادة البناء من أجل الوطن، ولابد له أن يجد ثمار التنمية توزع بعدالة، ويلمس مؤشرات النمو الاقتصادي ارتفاعا في دخله ومستوي معيشته. واجب هذه الحكومة - ومن سيأتي بعدها - أن تسرع في خطواتها نحو مكافحة الفساد، ونحو ابتكار حلول خلاقة للتشغيل والحد من البطالة. واجب هذه الحكومة - ومن سيأتي بعدها - أن تُشعِر الشعب حقا، أنها حكومة غالبية المواطنين. علي أن نواب الشعب والأحزاب والتنظيمات النقابية عليهم مسئولية لا تقل جسامة، في التعبير عن مطالب الجماهير وفئات الشعب بوصفهم ممثليه الشرعيين، والضغط علي الحكومة لاتخاذ خطوات عاجلة تسد الثغرات في جدار التماسك الاجتماعي.. فلا يكفي الركون إلي جهاز الأمن في حماية الاستقرار دون اتخاذ قرارات وإجراءات تحفظ الاستقرار ولا يجب التنصل من المسئولية وإلقائها استسهالا علي الإعلام، لأن الإعلام مهما بلغت قدراته لا يستطيع الإقناع إلا بما هو مقنع.
الصورة الأهم في مشهد أول أمس.. هي تلك التي نشرتها جريدة »الأخبار« لمتظاهرين شباب من أسيوط، وهي واحدة من صور عديدة جاءتنا من مختلف المحافظات. كانت الصورة لشبان وشابات يحملون لافتة متواضعة من القماش تحمل عبارة: »عايزين نشتغل يا كبير« كان الشباب يتوجهون إلي الكبير.. إلي الأب حسني مبارك موضع ثقتهم ومحل اعتزازهم بتضحياته من أجل الوطن، مقاتلا، وقائدا لضربة النصر في حرب أكتوبر، ومحررا لآخر حبة رمل مصرية في طابا.. إلي رئيس مصر الذي يعرفون أنه هو الذي يشعر بهم ويحس بمعاناتهم. نحن نثق في حكمة الرئيس مبارك وخبرته العريضة، ونحن علي يقين بأن مبارك الذي حافظ علي سلامة أرض الوطن وسط العواصف الإقليمية والدولية، قادر علي حماية استقرار هذا البلد وعلي تصحيح المسار. ياسر رزق