من النظريات المهمة التي وضعها فيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي نظرية التحدي والاستجابة. ومؤدي هذه النظرية أن الأمم أو الحضارات تواجه تحديات كبري فإذا نجحت في التغلب علي هذه التحديات كانت أهلاً للبقاء، أما إذا فشلت فقد تنتهي من الوجود، وكم انتهت دول وحضارات من الوجود. ومصر نموذج لمواجهة التحديات الكبري عبر التاريخ باستجابات مدهشة كفلت لها البقاء حتي الآن. يكفي أن نتذكر مافعلته حين احتلها الهكسوس في العصور القديمة، وكيف هبت بقيادة حكام طيبة العظماء لتطرد هؤلاء الغزاة وتسجل بكل فخر أنها صاحبة أول حرب تحرير في التاريخ. وفي العصور الوسطي واجهت مصر التحدي المغولي الذي سيطر علي البلاد المجاورة، وأسقط الخلافة العباسية في بغداد، واستطاعت مصر بقيادة قطز أن تدحره وتخلص العالم من أخطاره. كما واجهت مصر أيضاً تحدي الاحتلال الصليبي، وقدمت استجابة رائعة انتهت بطرد الصليبيين. لقد وصل الأمر في لحظات ضعف الدولة الفاطمية أن وجد حكامها أنفسهم عاجزين عن مواجهة الزحف الصليبي علي الفسطاط فلم يملكوا إلا أن أشعلوا النيران في المدينة الجميلة، لكن مصر المتجددة لم تلبث أن استردت نفسها علي يد صلاح الدين وأوقعت الهزيمة القاسية بالصليبيين في حطين، وانتزعت القدس من أيديهم، وواجهت الجيوش الأوربية مجتمعة، ثم جاء بيبرس ليضع نهاية هذا الاحتلال الذي استمر مئات السنين. وأجهز قلاوون بعده علي ماتبقي من المستعمرات الصليبية تماماً. إنها استجابة رائعة تؤكد قدرة المصريين علي تقديم استجابات ناجحة مهما طال الزمن. وفي العصر الحديث واجهت مصر تحديات كبري عديدة، أولها الحملة الفرنسية 1798، التي انتهت الأمر بطرد الفرنسيين عام 1801، وثانيها حملة فريزر 1807، التي هزمها المصريون في رشيد والحماد هزيمة منكرة. وبعد خمس وسبعين سنة من هذه الهزيمة عاد الإنجليز لاحتلال مصر، لكن ثورة 1919 أثبتت أن مصر قادرة علي مواجهة التحدي، وانتهي الاحتلال تماماً علي يد عبد الناصر 1954. وفي 1956 واجهت مصر العدوان الثلاثي، فقدمت استجابة ناجحة انتهت بخروج المعتدين من أراضيها. ثم حلت النكسة في يونيو 1967، وكانت تسمي معركة الأيام الستة، وقدمت مصر استجابتها الرائعة في أكتوبر 1973 في حرب الساعات الست. وبين الحربين قاست مصر الكثير من الويلات لكن صبرها العظيم كان سلاحها. ففي حرب الاستنزاف مثلاً لم يكن لدينا رادارات قادرة علي كشف الطيران المنخفض، فانتهزت إسرائيل الفرصة لضرب مصر ضربات موجعة في العمق. ضربت المدارس والمصانع والمطارات والوحدات العسكرية، لكن مصر صبرت حتي امتلكت سلاحاً قادراً علي الوصول للعمق الإسرائيلي، ويومها أعلن السادات في خطاب شهير : « العمق بالعمق والنابالم بالنابالم « فتوقفت إسرائيل تماماً عن استهداف العمق المصري. بعد هذه التحديات الكبري واجهت مصر تحدي الإرهاب في الثمانينيات والتسعينيات. كان الإرهابيون ينشرون الموت في الشوارع. ويضعون القنابل تحت السيارات، وأسفل الكباري، ويهاجمون أتوبيسات السياحة، ويضربون المناطق السياحية، لكن مصر رغم الألم لم تستسلم، بل واجهت التحدي بصبرها المعتاد، وانتصرت عليه. وهانحن نواجه تحدياً جديداً ؛ إنه موجة جديدة من الإرهاب، لكن الإرهاب هذه المرة طور نفسه، وصار شبه جيش نظامي في سيناء، وبلغت به الجرأة أن يهاجم أكمنة الجيش ومعسكراته، ويستخدم أسلحة متطورة، ويهاجم أكثر من مكان في وقت واحد، ويستمر في القتال ساعات طويلة، لكن السؤال : هل هذا كله سيجعل الإرهاب يكسب التحدي ؟ إنني أؤكد في ضوء التاريخ الرائع لمصر والمصريين أن مصر ستنتصر علي هذا الإرهاب المسلح، رغم الشهداء الذين يدمون قلوبنا كل يوم، ورغم أبراج الكهرباء التي يسقطها الإرهابيون هنا وهناك، ورغم تفجير أنابيب الغاز. رغم كل الآلام فإن مصر بصبرها المدهش ستنتصر. ومن لايصدق فليقرأ التاريخ.