هناك مدرسة مصرية عريقة لكتابة الدراما التاريخية، وهي بلا شك أقدم مدرسة للكتابة التاريخية في المنطقة العربية وأفريقيا والشرق الأوسط. وأهم معالم هذه المدرسة: تحقيق التوازن بين الجوانب التاريخية والجوانب الدرامية، بحيث لا يكون العمل التاريخي مجرد حصة في التاريخ ولا يكون استغراقاً في الدراما والجوانب الإنسانية علي حساب التاريخ. ولهذه الدراما التاريخية أعلام مثل، بيرم التونسي، وأحمد رامي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وأمينة الصاوي، وسنية قراعة، ومحفوظ عبد الرحمن، ويسري الجندي، وكاتب هذه السطور. انظر مثلاً إلي أفلام الناصر صلاح الدين، أو إلي القادسية، أو رابعة العدوية، أو خالد بن الوليد، أو سلامة، أو دنانير، لتري في هذه الأفلام جميعاً كيف يتحقق التوازن بين التاريخ والدراما. وكيف يحرص الكُتّاب علي الدقة التاريخية، وإذا خرجوا علي التاريخ بسبب مقتضيات الدراما كان ذلك في أضيق الحدود لتحقيق أهداف نبيلة. وكان الكتاب المصريون إذا أرادوا كتابة أعمال تتخذ من التاريخ ستاراً يكتبون أعمالاً لا ترتبط بشخصيات تاريخية محددة أو أحداث معروفة، احتراماً للتاريخ، كما نري في فيلم « شاهين « الذي كتبه أحمد رامي في أواخر الثلاثينيات. أخذت الدراما التلفزيونية التاريخية تقاليد السينما المصرية وسارت علي نهجها في تحقيق التوازن بين التاريخ والدراما. لنأخذ مثالاً علي ذلك من المسلسل التاريخي قاسم أمين الذي شرفت بكتابته. قدمت في هذا المسلسل سيرة قاسم أمين والمعاصرين له متفقاً تماماً مع ما جاء بكتب التاريخ. وراجعه تاريخياً الدكتور يونان لبيب رزق. ودقق في كل صغيرة وكبيرة. أذكر أننا اختلفنا مرة حول تاريخ ارتداء سعد زغلول للثياب الإفرنجية، وكتب في تقرير له أن ما كتبته غير دقيق، فاتصلت به وسألته لماذا كتبت هذه الملاحظة؟ وقال لي حجته، وسألني: من أين جئت بهذه المعلومة؟ قلت من كتاب الجزيري سكرتير سعد زغلول الشخصي. وقرأت له ما كتبه الجزيري، فتراجع علي الفور عن ملحوظته بشجاعة تليق بالعلماء. قد يسأل سائل: كيف حققت التوازن بين التاريخ والدراما؟ هل هذه القصص الغرامية الموجودة بالمسلسل واردة في التاريخ؟ وأقول: إنها موجودة بكل تأكيد. قرأت مثلاً أن قاسم أمين أحب أثناء وجوده في فرنسا زميلته سلافا، فالتقطت هذا الخيط وصورت هذه العلاقة علي مدي ثلاث عشرة حلقة، ولأنه لم يتزوج هذه الفتاة فقد أعملت خيالي وصورت أنها توفيت بعد قصة رومانسية تهز المشاعر. قرأت أيضاً أن قاسم أمين تعرف علي فنانة اسمها وسيلة بعد عودته إلي مصر فنسجت قصة حب صامت بين وسيلة وقاسم، وصورت وسيلة في صورة شبيهة بسلافا لتكون امتداداً لقصة الحب الرومانسية التي لا تكلل بالزواج. باختصار أقول إني كنت في كتابتي لهذا المسلسل ممثلاً للمدرسة المصرية في الكتابة الدرامية للتاريخ. لكن بعد وصول الدراما التاريخية التركية ظهرت علي الساحة الفنية مدرسة أخري للكتابة التاريخية أسميها «مدرسة كيد النسا» لأنها لا تعطي للتاريخ الأهمية الأولي، بل تولي اهتمامها لمؤامرات الحريم ومكائد النساء، ويتابع الناس خلالها أحداثاً لاعلاقة لها بالتاريخ غالباً. انظر لمسلسل حريم السلطان لتري صورة حية لهذه الطريقة من طرق الكتابة. إننا أمام سيل من قصص الحب والمؤامرات والقتل، لحد تضيع معه الأحداث التاريخية وتتراجع للخلفية. وتقليداً للدراما التركية قررت إحدي شركات الإنتاج التلفزيوني العربية تقديم مسلسل عن تاريخ الخديوي إسماعيل، فجاءوا بمؤلفة لا علاقة لها بالتاريخ المصري لتخترع ما تستطيع أن تخترعه من مكائد النساء علي حساب التاريخ. وختاماً أقول بكل صراحة: لقد هزمت المدرسة المصرية حتي الآن أمام مدرسة كيد النسا، ربما لعدم قيام الشركات المصرية بإنتاج دراما تاريخية في السنوات الأخيرة، وربما لانبهار المنتجين العرب بالنموذج التركي مؤقتاً، أما المستقبل فمجهول في ظل الوضع المتردي للإنتاج في مصر المحروسة.