اندهشت كثيرا من التحليلات التي أدلي بها المسئولون والمفكرون عندنا حول تفجير السيارة المفخخة أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية في مساء رأس السنة الميلادية والذي كان عملا إجراميا بكل معني الكلمة، فقد راحوا يفترضون مصادر مختلفة لهذا العمل الشنيع، مع ان تنظيم القاعدة هو الذي أعلن منذ شهرين تقريبا -ومن العراق بالتحديد- انه سوف يستهدف الكنائس المصرية بسبب ما ادعاه من احتجاز سيدتين في بعض الأديرة، لأنهما أعلنتا إسلامهما.. وأذكر يومها ان الجميع في مصر قد مر علي هذا التهديد مرورا عابرا، وقيل يومها ان جبهتنا أقوي من ان يخترقها تنظيم القاعدة، ثم ما لهذا التنظيم وأمور مصر الداخلية؟! وهكذا غاب التهديد تحت ضباب اللا مبالاة المصرية المعهودة حتي وقع المحظور، وتحقق التهديد علي أرض الواقع في هذا الفعل الاجرامي ليلة عيد الميلاد، وأثناء خروج المصلين المسيحيين من الكنيسة.. فتم اغتيال الفرحة مع الأرواح، وحدث ما أراده الإرهاب من الدوي العالمي حول مصر، ومدي الاستقرار فيها، ثم بدأ الاخوة المحللون مرة أخري يظهرون علي التليفزيون ليتحدثوا عن الوحدة الوطنية، والاحتقان الطائفي، وضرورة اصدار قانون العبادة الموحد، وحق الأقباط فيما يطالبون به من نسبة من الوظائف والمشاركة السياسية.. وكاد الحديث يبتعد تماما عن الفاعل الأصلي الذي هدد من الخارج، ثم قام بتنفيذ تهديده في الداخل، وبالطبع بواسطة بعض أتباعه والمتعاونين معه. وهؤلاء موجودون في كل بلاد العالم، وبإمكانه تحريكهم في الوقت والمكان المحددين، لتنفيذ عملياته الإرهابية. وهو يعتمد في ذلك علي أمرين: جودة التخطيط مع اتاحة التمويل اللازم لكل عملية، ثم تجنيد بعض الشباب المغرر بهم، بعد غسل أدمغتهم، وزرع مبدأ الموت في سبيل الفكرة بهدف دخول الجنة، والتمتع بالحور العين. والمشكلة هنا انه كلما وقعت حادثة إرهابية في أي مكان في العالم ارتفعت أصوات الإدانة والتنديد، وجري الحديث قليلا عن الظاهرة في نتائجها دون البحث العميق عن مسبباتها، ولا عن كيفية المواجهة المجتمعية الشاملة لها. وقد نلاحظ ان الدول كلها وبدون استثناء قد أصبحت تلقي بمسئولية هذا الملف علي أجهزة الأمن، التي تحاول التصدي، وتقوم بجمع الأشلاء، ولكنها حتي الان لم تستطع تجفيف المنابع، ولا اجتثاث الجذور! ان الإرهاب -أيها السادة- تقف وراءه فكرة ومعتقد، وتدفعه للعمل أسباب وظواهر، وتساعده علي التنفيذ أفراد وفئات لها مصالح، كما يتيح له فرصة التخفي والاختباء تعاطف من الوسط الذي يوجد فيه، ويحتمي به. وهذه هي أبعاد الحقيقة التي لا يريد أحد ان يواجهها بصراحة، وغالبا ما يتهرب القائمون علي وسائل الإعلام من طرحها للمناقشة. وبالطبع هناك العديد من البحوث والدراسات القيمة، التي وضعت يدها علي مكمن الخطر، وحاولت تشخيص الظاهرة الإرهابية، بل واقترحت حلولا مناسبة لها. لكن الدول والمجتمعات مازالت غافلة أو متجاهلة لهذه الدراسات، وفي كل مرة يقع حادث ارهابي بغيض تتحرك سواقي الكلام الهلامي، والانفعالات المتأججة ثم ما تلبث ان تتوقف بعد لحظات.. والخلاصة: هل تريدون مواجهة الإرهاب؟ اذن تعالوا نجلس معا لبحث أسبابه ودوافعه، وبيان مدي تطوره وانتشاره، ومحاولة التعرف علي داعميه ومشجعيه، مع عدم اغفال من يستفيد اخيرا من جرائمه.. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة وضع الحل، الذي ينبغي ان يشارك فيه الجميع، وان يقوم كل فرد ودولة بمسئوليته المحددة تجاه هذا الخطر الداهم، والذي قلت في بداية التسعينات من القرن العشرين انه سوف يستمر إلي منتصف القرن الحادي والعشرين، وأنا أقول الآن: ربما امتد إلي أبعد من ذلك.