مما يقال انه لا يوجد شئ حقيقي أو كاذب في هذه الدنيا، وإنما يتلون ما فيها طبقا للون العدسات التي نقوم بوضعها علي أعيننا. ومما لا شك فيه إن التفاوت في الرؤي ينسحب كذلك علي جدل المقارنة بين كل من الديكتاتورية والديمقراطية، التي يمكن تلخيص تعريف الأولي في طلبها أن تغلق فمك كل الوقت، والثانية بسماح لفتحه طيلة الوقت. وقد أثبتت التجارب التاريخية عدم تلبس الدكتاتورية بالشر كله ولا الديمقراطية بالخير كله، بل قد تؤدي إحداهما للأخري، إذ قد يتولد من الدكتاتورية إثر فترة من سيادة لها تقتضيها بناء أمة ما، نظاما أكثر مرونة يتيح حريات تؤدي إلي الديمقراطية، وبالمثل قد تتحول الأخيرة في مجتمع غير منضبط إلي فوضي تدريجية تقذف به إلي الشمولية العسرة. ولا يخفي أن الغلبة في عصرنا الحالي هي للنظم الديمقراطية، وإن اختلفت درجات تطبيقاتها، فما يصلح في الدول المتقدمة، قد يؤدي إلي خلخلة بلدان لم تبلغ بعد ما وصلت إليه شعوب الأولي من ارتفاع في مستوي الشعور بمسئولية المشاركة السياسية والاجتماعية علي الوجه الصحيح. وأسوة بغيره، يحمل النظام الديمقراطي في جنباته عوامل تفتت ذاتي تتمثل فيما قد يسمح به من اختلافات تؤدي لقلاقل قد تهدم ذات قواعده، كما أنه يترك ما يمكن ان يطلق عليه مجازا، باب الوطن مفتوحا أمام قوي خارجية قد تعمل علي تقويضه مستخدمة في ذلك الغطاء النابع من مفهوم الديمقراطية نفسه والذي يسمح بالتدخل في خصوصيات الأخرين بدعوي صيانة الحريات لفرض هيمنة عزت علي بعض من اكتسبوها بالسلاح فيما مضي، أن لا يمارسوها الآن بشكل مختلف. وقد نالت الديكتاتورية نصيبها من ذم طال مثله صاحبتها الديمقراطية، ويظهر هذا التوجه فيما صدر عن بعض كبار رجالات الغرب متضمنا نقدا مستترا للأخيرة، فيقول الرئيس الأمريكي هاري ترومان: »حيثما تعثر علي حكومة فعالة فإنك تجدها بالضرورة ديكتاتورية«، ويري قرينة الرئيس »جروفر كليفلاند« : »إن سفينة الديمقراطية قد تتعرض للغرق نتيجة تمرد من عليها«، ويتفق مع هذا التوجه »توماس جيفرسون« الرئيس الثالث للولايات المتحدةالأمريكية، بينما يزيد »ونستون تشرشل« رئيس الوزراء البريطاني المخضرم علي ذلك بقوله: »إن أكثر الحجج قوة ضد الديمقراطية هي إجراء حوار لخمس دقائق مع نائب عادي«، مؤكدا ما سبق أن ذهب إليه الأديب الكبير »برنارد شو«. وترتيب أوضاع وطن يستوجب في المقام الأول تضافر جهود أبنائه لحل مشكلاته، وهو ما يصعب التوصل إليه أحيانا في مناخ التناحر الذي يطلق عليه ظلما مسمي »الحريات« التي قد يكون في سوء استخدامها ضررا بليغا له بل ويمكن اعداءه من النيل منه دون أن يشعر المتناحرون بمساهمتهم الأكيدة في عرقلة مساره والتغافل عن كون التقدم، حتي وإن كان بطيئا هو أفضل من نكوص للخلف أو عدم حراك. وعندما تجئ الديمقراطية برئيس دولة عظمي يري أن »شارون رجل سلام«، فلابد أن يعاد النظر فيما ينسب إليها من كمال هي منزهة عنه، وليس هذا غايته انتقاصا من قيمتها وإنما هو لتأكيد إنها أحيانا لا تأتي مثلها مثل الدكتاتورية، بما هو أحسن، وإن الأخذ بنظام ما إنما يتوقف علي ظروف ومصالح كل أمة ومدي ملائمته لمواجهة تحدياتها في مرحلة من مراحل تطورها، فليس هناك أخطر ما يكون علي مستقبل بلد ما ممن يعظمون تخلفا ويرسخون تطرفا بظن أنهم طاهرة قلوبهم طهارة تعصمهم من الخطأ. كاتب المقال : سفير سابق